علاء الأسواني: "الغشاش الأكبر"
١٤ يونيو ٢٠١٦سيتوقف علماء الاجتماع طويلا أمام ما يحدث في مصر هذه الأيام:
عشرات الفيديوهات على الانترنت تصور حالات غش جماعي في لجان الثانوية العامة في محافظات عديدة. الطبيعي أن يخجل الطالب الغشاش أو يخاف أو يتوارى لكن الطلاب يظهرون في الفيديوهات وهم يغشون ويبتسمون للكاميرا وبعضهم يلوح بعلامة النصر. هل أصبح لدينا فعلا جيل جديد بلا أخلاق يعتبر الغش في الامتحان براعة ومهارة؟!. نحن بالقطع لا ندافع عن الغش ولا نبرره لكننا نحاول ان نفهم أسباب هذه الظاهرة المشينة وكيف نعالجها؟
منذ أن انفجرت الفضيحة والمسؤولون في الدولة يتبارون في إدانة الغش ولعن التلاميذ الغشاشين والتأكيد على مكارم الأخلاق. ان الاعتقاد بأن المواعظ وحدها ستنشر الأخلاق الفاضلة ينم عن تفكير ساذج متخلف عن العصر. ان أخلاق أى شعب تتشكل طبقا لرؤيته للحياة التى هي نتاج مباشر للظروف الاجتماعية والسياسية التى يعيش فيها. هؤلاء الطلاب الغشاشون منعدمو الأمانة في نظر الدولة فهل كانت الدولة أمينة معهم..؟
لقد أدرك هؤلاء التلاميذ منذ الطفولة أن المدارس ليست أماكن لتلقي العلم وإنما مقرات للتعاقد على الدروس الخصوصية و رأوا التلميذ الفقير الذى لا يتلقى درسا خصوصيا يتم التنكيل به من المدرسين، ثم أنهم يعرفون أنهم بعد تخرجهم من الجامعة لن يحصلوا أبدا على وظيفة الا بالواسطة بغض النظر عن تفوقهم، ويعلمون أنهم لو تفوقوا في كلية الطب فلن يتم تعيينهم في هيئة التدريس أبدا الا اذا كانوا أبناء لأساتذة الطب أو لكبراء الدولة، واذا التحقوا بكلية الحقوق وتخرجوا بتفوق فلن يتم تعيينهم في القضاء ما لم يكونوا "لائقين اجتماعيا" أي من أبناء القضاة والكبراء. لقد صرح المسؤولون عن القضاء ان التفوق الدراسي ليس عاملا حاسما في التعيين بالنيابة بل قال أحدهم مرة إن تقدير مقبول لطالب من أسرة قضائية يساوى تقدير ممتاز اذا كان من أبناء العامة.
لقد نشأ هؤلاء الشبان في بلد لا توجد فيه قواعد حقيقية تطبق على الجميع وانما ثروتك ووضعك الاجتماعي يحددان مصيرك قبل اجتهادك وذكائك، في بلد لا يطبق القانون الا على الفقير والضعيف أما الكبار أصحاب النفوذ فتعطل من أجل خاطرهم القوانين وتصدر قوانين جديدة لتحافظ على مصالحهم. قبل أن تدين الدولة هؤلاء التلاميذ لانعدام أمانتهم عليها أن تسأل نفسها هل تعاملت مع الشعب بأمانة..؟
عندما تتم كتابة دستور ويوافق عليه الشعب في استفتاء ثم يتم انتهاك الدستور كأنه لم يكن بل ويسخر منه رئيس الدولة قائلا: "الدستور مكتوب بنوايا حسنة لا تصلح لنهضة الدول". عندما يلزم الدستور رئيس الجمهورية بتقديم اقرار الذمة المالية فلا يقدمه بعد عامين من الحكم. عندما ينتظر الشعب انتخاب البرلمان ليعبر عنه فتستبعد أجهزة الأمن كل المرشحين المعارضين للسيسي ويتم تشكيل البرلمان بالكامل في مكاتب المخابرات، بل نرى في فيديوهات مرشحين يشترون الأصوات فلا يحقق معهم أحد ويصبحون نوابا في البرلمان بالغش.
عندما يقوم رئيس جهاز المحاسبات هشام جنينه بعمله في حماية المال العام فترفض هيئات (مثل وزارة الداخلية ) اطلاعه على ميزانيتها ويرفض النائب العام التحقيق في بلاغات الفساد التى يقدمها ثم ينتهك رئيس الجمهورية الدستور ويقيل هشام جنينه وتتم احالته للمحاكمة.
عندما يسقط آلاف الشهداء منذ قيام الثورة في مذابح متتالية على مدى خمسة أعوام تم القتل فيها بدم بارد أمام الكاميرات فلا يعاقب قاتل واحد وعندما يتصالح النظام مع كبار اللصوص مقابل مبالغ ضئيلة ويتركهم ينعمون بثرواتهم المنهوبة من الشعب، وعندما يصدر قانون التظاهر بالمخالفة للدستور ويطبل له الاعلام المنافق فيتسبب في القاء آلاف الشباب في السجن لأنهم عبروا عن رأيهم.
عندما يدرس التلاميذ في كتاب القراءة ان جزيرتي تيران وصنافير مصريتان ثم يفاجَأون بالرئيس يقول إنه أعطاهما للسعودية لأنهما ملكها وإنه لايريد أي كلام في هذا الموضوع. عندما يتحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة خارج القانون فيحبس شبان أعواما بدون محاكمة لأنهم كتبوا كلمات ثورية على تي شيرت أو فيسبوك. عندما يتم التعذيب بشكل منهجي لمعتقلين كل جريمتهم انهم غير مقتنعين بقرارات السيسي. عندما يسيطر الأمن على الاعلام الحكومى والخاص ويستعين بمذيعين لا يملكون أى خبرة ولا موهبة ماعدا علاقتهم بالأمن وبذاءتهم وتكون مهمتهم تشويه أى معارض للسيسي وسبه واتهامه بالخيانة أمام الملايين في التليفزيون ثم لا يحاكمون بتهمة السب والقذف.
ألا يعتبر كل ذلك تدليسا من الدولة على الشعب..؟
لماذا نستكثر على التلاميذ أن يغشوا في امتحان الثانوية اذا كانت الدولة تغشهم باستمرار. ان هؤلاء التلاميذ يغشون لأنهم ببساطة فقدوا الايمان بالقواعد العادلة في مصر ولو ان أحدا منهم التحق بجامعة محترمة في دولة ديمقراطية فلن يغش أبدا. أولا لأنه يعلم ان عقوبة الغش هناك ستكون فورية ورادعة وثانيا لأنه سيكون مطمئنا لأن كل طالب سيحصل بالضبط على نتيجة اجتهاده، يتساوى في ذلك ابن رئيس الوزراء مع ابن الكناس. ان النظام السياسي في أي دولة يحدد الاطار الأخلاقي للمجتمع فاذا أقام العدل سوف يجتهد الناس وهم مطمئنون على حريتهم وحقوقهم أما اذا كان النظام ظالما وكاذبا فلا يجب أن يندهش اذا فعل به الناس نفس ما يفعله بهم. اذا كان تلاميذ الثانوية العامة غشاشين صغارا فان دولة الاستبداد هي الغشاش الأكبر. لن تسود الأخلاق الا باقامة دولة العدل.
الديمقراطية هي الحل