عدوانية بوتين تدفع بمزيد من الدول للاحتماء بمظلة الناتو
١٨ مايو ٢٠٢٢لعقود من الزمان حافظت كل من السويد وفنلندا على حيادهما وجعلتا منه ركيزة لعقيدتهما الأمنية، وذلك بالرغم (أو بسبب) وجودهما على خط التماس العسكري بين روسيا ، وقبلها الاتحاد السوفييتي من جهة، و حلف شمال الأطلسي (ناتو) من جهة أخرى. لكن العدوانية التي أظهرتها روسيا في غزوها لأوكرانيا غيًرت موقف البلدين بشكل جذري، فباشرا اتخاذ الخطوات الأولى للاحتماء بمظلة حلف الناتو. وسارع الحلف الأطلسي للترحيب بقرار البلدين، معتبرا ذلك "خطوة تاريخية"، مؤكدا على لسان أمينه العام ينس ستولتنبرغ أن انضمام البلدين للحلف "سيعزز أمننا المشترك ويظهر أن أبوابنا لا تزال مفتوحة وأن العدوان لا يؤتي ثماره"، في إشارة غير مباشرة إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد حقق عكس ما كان يسعى إليه من غزوه لأوكرانيا.
غير أن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أكد في رد على هذه الخطوة معتبرا أن "توسعًا جديدا لحلف الناتو لن يجعل قارتنا أكثر استقرارًا وأمنًا". الرئيس الفنلندي سولي نينيستو ألقى بشكل صريح باللوم على الرئيس فلاديمير بوتين في تغيير هلسنكي لموقفها التقليدي. صحيفة "تاغسشبيغل" البرلينية كتبت معلقة (12 مايو/ أيار 2022) "توصلت فنلندا لاستنتاج منطقي واعتبرت أنه على عكس الحرب الباردة، لم تعد تقف بين كتلتين تدافعان عن وضع قائم. فروسيا اليوم تهاجم بلدانا أخرى مرارًا وتكرارًا منتهجة خطابا عدوانيا (..) كذلك، هناك حلف الناتو الذي يقوم على نظام أمن جماعي يفعل الكثير لتأمين وجود أوكرانيا في القتال ضد روسيا قبل أن تدخل الحرب. كما قام بحماية أعضائه بشكل فعال في أوروبا الشرقية، مثل دول البلطيق وبولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا، من خلال الوعد بتقديم المساعدة في حالة وقوع هجوم وفق المادة الخامسة من ميثاق الحلف".
برلين ترحب بخطة الدولتين الاسكندنافيتين
أشاد المستشار الألماني أولاف شولتسبقرار فنلندا والسويد واعتبره "خطوة تاريخية للحلف الدفاعي وأوروبا" ووعد بأن ألمانيا ستعمل من أجل إجراءات قبول سريعة. من جهتها قالت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك خلال لقاء جمعها بنظيرتها الدنماركية جيبي كوفود في برلين "أنا واثقة للغاية من انضمام فنلندا والسويد بسرعة، لأن الجميع يدركون جيدا أن هذه لحظة حاسمة، لحظة تاريخية، لكن في وضع مأساوي للغاية". وحول مسألة الضمانات الأمنية المحتملة لفنلندا والسويد تجاه روسيا خلال عملية الانضمام، قالت بيربوك إن الحكومة الألمانية والعديد من دول الناتو الأخرى تخطط لعملية تصديق سريعة، موضحة أن هذا يُقلص من وقت المرحلة الانتقالية، واستطردت قائلة "إذا استمرت هذه المرحلة لفترة أطول قليلا (..) فسنوفر جميع الضمانات الأمنية المناسبة".
وأكدت رئيسة الدبلوماسية الألمانية بدورها أن روسيا هي التي دفعت بفنلندا والسويد للانضمام للناتو، "في هذه اللحظة، يتعين علينا كأوروبيين وديمقراطيين أن نقف إلى جانبهما. وهذا يقوي في الوقت نفسه أمننا"، مضيفة أنه بالنظر إلى هذا التفاهم المشترك، "فأنا واثقة للغاية من أن الانضمام سيكون سريعا". وأوضحت أن الانضمام سيصب لذلك في مصلحة الحلف. وتحتاج المصادقة إلى موافقة البرلمان الاتحادي في ألمانيا. وقالت بيربوك مطلع هذا الأسبوع إن الحكومة الألمانية تحدثت بالفعل إلى جميع الأحزاب الديمقراطية في البرلمان في هذه الشأن.
في سياق متصل، صرح مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن انضمام السويد وفنلندا لحلف الناتو من شأنه أن "يقوي" الاتحاد الأوروبي. وقال بوريل إن التوسع المحتمل للناتو هو "عكس ما كان (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يرغب في تحقيقه" بغزوه لأوكرانيا، حيث إنه كان يهدف لمنع توسع الحلف قرب حدود روسيا. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" (15 مايو) "إن الدول الإسكندنافية هي مصدر قوة لحلف شمال الأطلسي من النواحي السياسية والعسكرية والاستراتيجية. وعندما يتعلق الأمر بالرؤى المستقبلية، يمكن للبلدان الأخرى أن تتعلم الكثير من دول شمال أوروبا".
"وكر الإرهاب" ـ خلفيات التحفظات التركية
كعضو في حلف الناتو، لوحت أنقرةباحتمال اعتراضها (باستعمال حق النقض) على انضمام السويد وفنلندا للحلف. وبهذا الشأن قال الرئيس التركي طيب رجب أردوغان "لن نوافق على انضمام أولئك الذين يفرضون عقوبات على تركيا إلى حلف الناتو (..). يفتقر كلا البلدين إلى موقف واضح ضد المنظمات الإرهابية (..). إن السويد هي أرض تعشش فيها المنظمات الإرهابية". وأضاف أردوغان، ينبغي على وفود البلدين التي تأمل في "إقناع" تركيا بتغيير موقفها ألا "تكلف نفسها عناء زيارة" أنقرة.
من جهته، أكد ينس ستولتنبرغ الأمين العام للحلف أن التحفظات التركية يجب أن تؤخذ في الاعتبار. وأوضح في تغريدة عبر تويتر "تركيا حليف قيم وأي مخاوف أمنية تحتاج إلى معالجة (..). يجب أن نقف معا في هذه اللحظة التاريخية".
وأوضحت أنقرة أن موافقتها على انضمام الدولتين يجب أن تستوفي شروط معينة. واعتبر الرئيس التركي أنه لا يستطيع الموافقة على انضمام الدول التي فرضت عقوبات على تركيا. وكرر تعليقات بأن كلا البلدين يدعمان "المنظمات الإرهابية" بما في ذلك حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا وميليشيا و حدات حماية الشعب الكردية في سوريا.
وخلال اجتماع لوزراء خارجية حلف شمال الأطلسي في برلين انتقد جاويش أوغلو عدة دول أعضاء لتقييدها صادرات الأسلحة إلى تركيا بسبب حربها ضد هذه الجماعات. ومن غير الواضح كيف يمكن إقناع تركيا بعدم استخدام حق النقض (الفيتو) ضد عضوية السويد وفنلندا في حلف شمال الأطلسي. وبهذا الشأن كتبت صحيفة "فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ" (18 مايو) "يقول مثل تركي أن السمكة لا تعود إلى رشدها إلا عندما تصطاد في شبكة"، هذا ما يصف إلى حد كبير موقف أنقرة من احتمال انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو (..). في الأيام القليلة الماضية، اتهم الرئيس أردوغان ووزير خارجيته مولود أوغلو الدولتين مرارًا وتكرارًا بدعم المنظمات الإرهابية، وبشكل أدق: حزب العمال الكردستاني، و حركة غولن ، وميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا".
موسكو تسقط في فخ نصبته لنفسها
حاولت روسياالتقليل من أهمية انضمام الدولتين الإسكندنافيتين لحلف الناتو، كما جاء ذلك على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف "تشارك فنلندا والسويد ودول أخرى محايدة في تدريبات الناتو العسكرية منذ سنوات عديدة"، معتبرا أن الانضمام الرسمي للحلف لن يغير كثيرا من واقع الأمر. غير أن موسكو تعتبر مع ذلك هذه الخطوة "خطأ" سيقوض الأمن في القارة الأوروبية. وأوضح ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين "لسنا مقتنعين بأن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي سيعزز بطريقة ما أو يحسن الهيكليات الأمنية في قارتنا (..) هذه قضية خطيرة وهي قضية تثير قلقنا، وسنتابع بعناية شديدة ما ستكون عليه نتائج انضمام البلدين إلى الناتو من الناحية العملية في ما يتعلق بأمننا الذي يجب ضمانه بطريقة غير مشروطة على الاطلاق".
وكانت روسيا قالت إن من بين أسباب الهجوم على أوكرانيا، طموح هذه الدولة الى الانضمام لحلف شمال الأطلسي في حين أن هذا الأفق لم يكن قريبا. والآن، وفي حال انضمام السويد وفنلندا الى الأطلسي فإن حدود روسيا مع الحلف ستمتد أكثر. غير أن الكرملين أوضح مع ذلك أنه بالمقارنة مع أوكرانيا "ليس لدينا خلافات على أراض مع فنلندا أو السويد خلافا للحال مع أوكرانيا"، في إشارة الى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في 2014. موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى كتب معلقا (17 مايو) "من الواضح أن التوازن الجيو استراتيجي سيتغير نتيجة للتوسع الشمالي لحلف الناتو، ليس فقط فيما يتعلق بالحدود الفنلندية الروسية التي يبلغ طولها 1300 كيلومتر، والتي ستصبح حدود الناتو. ولكن أيضًا فيما يتعلق بوصول أسطول البلطيق إلى بحر البلطيق وربط جيب كالينينغراد الروسي بمناطق القطب الشمالي".
واشنطن تضرب عصافير كثيرة بحجرة واحدة
في أعقاب اجتماع لوزراء خارجية الحلف في العاصمة الألمانية برلين، قال وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن "سمعت بلا استثناء تقريبا دعما قويا للغاية لانضمام فنلندا إلى الناتو في حال اختارت هذا. وأنا متفائل للغاية بأننا سنتوصل إلى إجماع في هذه القضية". وبشأن التحفظ التركي، أضاف بلينكن أنه تحدث مع نظيره التركي معتبرا أن "الناتو مكان للحوار" مشيرا إلى أن الدول الأعضاء يمكنها أن تتحدث داخل الحلف عن كل الخلافات المحتملة، ورفض أن يفصح عن تفاصيل محادثته مع تشاووش أوغلو. وتابع بلينكن أن هناك "إجماعا قويا" داخل الناتو فيما يتعلق بانضمام فنلندا والسويد. ومن وجهة نظر أمريكية، فالخطر الروسي لا يُختزل في شرق أوروبا، ذلك أن بوتين قام ومنذ فترة طويلة برسم طموحاته الاستراتيجية، من منطقة الساحل إلى البحر الأبيض المتوسط، يتوسع الروس ويطبقون دروس سوريا وأوكرانيا. غير أن عددا من المعلقين الألمان يرون أن المصالح الأمريكية لا تتطابق دائما مع المصالح الألمانية.
موقع "تسيسيريو" (17 مايو) كتب معلقا بهذا الشأن أن "الجدل الدائر حول حرب أوكرانيا أظهر عدم قدرة السياسيين الألمان على تحديد مصالح البلاد، والتي تختلف عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية. لأن التدهور الاقتصادي بسبب العقوبات لا يدخل في المصالح الألمانية والأوروبية ونفس الشيء ينطبق على حرب استنزاف طويلة الأمد ضد روسيا يمكن أن تتصاعد وتتحول إلى حرب عالمية".
فقد كان دائما من الواضح أن أوكرانيا تكتسي أهمية قصوى لكلا من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي. وتعتبر روسيا أوكرانيا جزءًا من مجال نفوذها وهيكلتها الأمنية، فيما تسعى واشنطن إلى تأمين وتعزيز نفوذها الاستراتيجي في أوروبا. ويعتبر توسيع حلف الناتو باتجاه الشرق أحد أهم أدوات هذه السياسة. فهل يتماشى هذا التوجه على المدى البعيد مع المصالح الحيوية لألمانيا وأوروبا؟
الأكيد أن الغزو الروسي لأوكرانيا سيغير بشكل جذري هندسة التحالفات الاستراتيجية في أوروبا والعالم. ولا يزال من السابق لأوانه رسم خريطة وافية لارتدادات هذا التحول غير المسبوق.
حسن زنيند