رشا حلوة: أيها لا يمثلنا.. قيم مسلسل "جن"، أم خطاب منتقديه؟
٢٠ يونيو ٢٠١٩أثار أوّل مسلسل يُنتج باللغة العربيّة عبر شبكة "نتفليكس" جدلًا واسعًا في الأردن على وجه الخصوص، على مستوى حكومي وكذلك شعبي تجسّد عبر مواقع التواصل الاجتماعي. يروي مسلسل "جن" قصّة مجموعة من الطلبة الذين ذهبوا في رحلة طلابية إلى منطقة "البتراء" السياحية، وقد تعرض الطلبة لمواقف "مرعبة" خلال "استحضارهم" غير المقصود "للجن"، وعبر الأحداث، يسلط المسلسل الضوء على علاقاتهم الإنسانية والعاطفية والصداقة فيما بينهم.
بعيدًا عن النقد المتعلّق بجودة المسلسل، على مستوى الدراما والإخراج وما إلى ذلك، وهو ضروري جدًا في عالم النقد الفني، والذي بالكاد تم التطرق إليه في "نقد" المسلسل، حيث هذا الجانب لم يُشغل أحد مقارنة بمشاهد من المسلسل أثارت غضب شريحة لا بأس بها من الشارع الأردني، بحجة أن المسلسل "يخدش الحياء العامّ"، ولا يمثّل الأردن ولا شبابه ولا قيّمه ولا عاداته وتقاليده.
إن المشاهد التي أشير إليها، احتوت على قبلة بين شاب وشابة، على حديث فيه من الشتائم وكذلك تعاطي الكحول والمخدرات. وبالتالي، هي مشاهد تُعتبر "حساسة" وتقع في خانة "التابو" بالنسبة لمجتمعات مصنّفة أو تعتبر نفسها محافظة. كما أن هذه التصرفات هي بأساسها حريات فردية، وتقع في خانة حرية القرار والاختيار، هذه الحريات التي تُقمع باستمرار باسم العادات والتقاليد والقيم والدين والموروث الثقافي والاجتماعي، وكذلك باسم القانون أحيانًا.
إن الجدل حول المسلسل هو بأساسه معركة حول إنكار ما تعيشه شريحة كبيرة من الشباب العربي، الذي يضم شباب وشابات، والذي يدور أحيانًا في قاعات سرية للحماية الفردية خوفًا من المجتمع غالبًا والقانون أحيانًا. هذه الحياة التي تجسّدت في مشاهد مسلسل "جن"، بغض النظر عن النقاش حول جودة ما قُدم فنيًا أيضًا، تم الاعتراض عليها في تعليقات وخطابات عنيفة، ذكورية، سلطوية وقامعة تجاه كل من "يتجرأ" على مخالفة ما سُمي بالقيم، بل ومن يتجرأ على الخروج عن هذا "التابو"، وكأن كل من يُمارس حريته الفردية هو بالضرورة مجرم يجب أن يُعاقب.
في حديث مع الشاعرة والصحافية الأردنية، سنابل قنو، حول الجدل الذي دار في الشارع الأردني، قالت: "ما يحدث على أرض الواقع أكثر بكثير مما مرّ في المسلسل، إن مرحلة المراهقة هي مرحلة التجريب بالمطلق، لذا إن ما يحصل فيها يكون مبالغ به نوعًا ما، من حيث التجارب الجنسية أو تجربة شرب الكحول أو تناول الأقراص المخدرة إلى أن ينتقل المراهقون أو المراهقات لمرحلة أكثر نضجًا ليختاروا ما يناسبهم، هذا لا يعني أن الجميع يخوض تجاربًا مماثلة، لكنني أتعجب من المجتمع الذي ينكر حالة كاملة ويختبئ خلف يده".
في مثل هذه السياقات، وخاصة عندما يكون الحديث عن منتج فنّي ما، أو في سياق أداء متعلق بالحريات الفردية تحديدًا، وهنا من المهم الربط بين جانب مهم في الحريات الفردية، وهي حرية النساء ضمن مجتمعات تسيطر عليه عقليات ذكورية، نجد أن أوّل التعبيرات المهاجمة لها، قبل أن تبدأ مرحلة التجريح والشتائم لكل من يخرج عن "الأداء العامّ"، هو بأن هذه التصرفات "لا تمثلنا". وفي ما يتعلّق بالمسلسل، فانتشرت تعليقات عديدة، عبر السوشيال ميديا وكذلك الرسمية، بأن هذه التصرفات لا تمثّل الشارع الأردني.
بداية، ما هي هذه الفكرة المتكررة أن الشارع الأردني أو المصري أو التونسي لديه شكل واحد؟ وأن لدينا نفس الأفكار والمعتقدات ونمشي خلف نفس القيم؟ وما هي القيم التي تمثّل شوارعنا عمومًا؟ هل ما يمثلنا هو الهجوم العنيف والذكوري على كل من يريد التعبير عن رأيه بحرية؟ والهجوم الذي تعرضن له الممثلات النساء في المسلسلات؟ هل ما يمثلنا هو القمع الذي تتعرض له النساء في الفضاءات الخاصّة والعامّة؟ هل ما يمثلنا هو قمع حرية الشباب ومنعهم من أن يعيشوا احتياجات إنسانية أولى وأن لا يشعروا دومًا بالرعب من ممارسة ما هو طبيعي؟ هل ما يمثلنا هو فقدان الثقة والأمان بين الشباب وأهاليهم فيما يتعلق بمشاعرهم وأفكارهم والتعبير عنها بلا خوف؟
في مقال لقتيبة الرومي، بعنوان: "مسلسل "جن": كيف أصبحت "قيمنا" أسلحة فتاكة لقمع حرية التعبير؟"، المنشور في موقع "رصيف22"، قال: "المفارقة المؤلمة أن اللغة والصور المستخدمة في الحوار العامّ تفوق في بذاءتها وبشاعتها تلك التي تمَّ تداولها في مسلسل "جن"، والتي تعكس النفاق القاطن في العقل المحافظ الموجّه بالأساس نحو السيطرة والهيمنة الذكوريّة على سلوك (وجنسانيّة) الأنثى، وليس الدفاع حقيقة عن قيم المجتمع".
بعيدًا عن نقاشي أيضًا حول كيف صُوّر الحبّ في مسلسل "جن"، وهذا جانب مهم الحديث عنده، فإنه لمن المهم الإشارة إلى أن الحبّ والعلاقات العاطفية والقُبل هي مشاعر طبيعية تواصل فئات مجتمعية وجهات سياسية قمعها تحت مسميات عديدة، والحب والعلاقات العاطفية والصداقة، هي قيم إنسانية عُليا يجب الدفاع عنها. إن الأزمة الأساسية تكمن بأننا في أغلب الأحيان، لم نترعرع على ذلك، بالعكس، صًورت لنا أنها عيبًا وحرامًا، وممارستها جريمة، مما وضع العديد منا، خاصة في جيل المراهقة، في مأزق يصب بالمعركة الذاتية بين الشعور الإنساني بالعاطفة وبين الخوف من ممارسة أي تعبير عن الحبّ. ولذلك يُمارس سرًا، وفي كثير من الأحيان بلا مسؤولية، وهُنا النقاش.
في حديثنا عن الحريات الفردية، من المهم الحديث عن المسؤولية، تجاه أنفسنا أولًا وتجاه الآخرين. هذه المسؤولية المدموجة بالحرية والتي تنتج عن توعية داخل العائلات والمدارس حول التربية الجنسية أولًا والتعبير عن العاطفة وما إلى ذلك، وهي أيضا مدموجة بقيم متعلقة بالمساواة بين الجنسيْن، خاصة تلك التي من المهم أن تحضر داخل العلاقات العاطفية، بعيدًا عن صور الحبّ العنيفة والقامعة للنساء (والتي قد ظهرت بمشهد ما في مسلسل "جن".
حسب إحصائيات عديدة، فإن أكثر مواقع الإنترنت زيارة في منطقتنا، هي المواقع الإباحية. وإرفاق هذه المعلومة ليس للتقييم الأخلاقي، بلا لأن هذه المعلومة مهمّة في سياق مجتمعات تقودها العقلية الذكورية التي ترى بالعاطفة والجنس بمثابة "تابو" لا يتم تداوله، بل وإنكاره الجمعي متواصل. ونتيجة لمواصلة "حماية" هذه التابوهات، فإن المتعة الإنسانية تُمارس بنهاية المطاف سرًا، أما في العلن فنركض للتصريح عند كل مناسبة بأن: "هذا لا يمثلنا".
مسلسل "جن"، ما هو إلا مناسبة لتسليط الضوء على هذه القضايا، وبالأساس، تكرار ما يخلقه الجدل القامع للحريات من دوائر عنف تُمارس بحجة القيم والعادات والتقاليد، هذه القيم التي بُلوّرت لخدمة مواصلة السيطرة الأبوية على المجتمعات، بشرائحها وفئاتها وجنسياتها المتنوعة، والتي لا تمت بصلة إلى القيم الإنسانية الحقيقية الحاضرة في موروثنا الثقافي: كموروث الحبّ في لغة تحتوي على سبع درجات لهذا الموروث، والذي يُحارب أيضًا.
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبته وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.