دعوة إلى تجاوز المخاوف النرجسية من المهاجرين في أوروبا
١٣ سبتمبر ٢٠١٥السيدة نوسباوم، يحمل كتابك الجديد عنوان "التعصُّب الديني الجديد". ما "الجديد" في هذا التعصُّب تجاه أتباع دينٍ آخر؟ أم يشير "الجديد" على وجه الخصوص إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة أكثر من إشارته إلى أوروبا؟
مارثا نوسباوم: أشير في كتابي إلى أنَّ هذا التعصُّب بشكلٍ أو بآخر ليس جديدًا البتَّة، إذ فيه الكثير من القواسم المشتركة مع التعصُّب طويل الأمد تجاه اليهود والأقليَّات الأخرى. أعتقد أنَّ الجديد قليلٌ جدًا في حالة الولايات المتحدة الأمريكيَّة، فقد كانت لدينا دائمًا موجاتٌ من الهجرة لأناسٍ مختلفي المظهر ومختلفين في الديانات التي يتبعونها، ومن نواحٍ عديدةٍ يُعتبر التعصُّب الملحوظ حاليًا أقل بالمقارنة مع الماضي، أي عندما أتت إلى البلاد أعدادٌ كبيرةٌ من المهاجرين الكاثوليك من جنوب وشرق أوروبا. أما في أوروبا فنحن أمام وضعٍ جديد، حيث اجتذبت الدول العمَّال من الخارج نظرًا لأعداد سكانها المتناقصة وهي ليست مستعدة وجدانيًا ولا سياسيًا لهذه "المواجهة مع التغاير" الذي يرافق هذه الدعوة. ويمكن مقارنة الوضع مع سيدةٍ مضيفةٍ دعت العديد من الضيوف إلى العشاء وتبيَّن لها حين اضطرت للتعرُّف على الطبيعة الفعليَّة للضيوف بعد ذلك أنَّها غير مستعدةٍ أبدًا.
أنت تقارنين بين تجارب تعايش مختلف الفئات الاجتماعيَّة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة وتلك الموجودة في أوروبا، وترين في هذا أنَّ أداء الولايات المتحدة الأمريكيَّة أفضل، حيث تتحدثين عن "الحل الأمريكي". ويعود السبب بحسب رأيك إلى "الفكرة الرومنطيقيَّة" السائدة في أوروبا، التي تنطلق من أنَّ الهويَّة تقوم على أساس الأصل أو اللغة أو الثقافة. وحجَّتك في ذلك أنَّ الانتماء القومي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة يتحدد من خلال "المُثل السياسيَّة العليا" و"مشروعٍ سياسيٍ مشتركٍ". ما فائدة مقارنة الوضع في أوروبا بالوضع في الولايات المتحدة الأمريكيَّة نظرًا للظروف التاريخيَّة المختلفة في التعامل مع المهاجرين؟ وإلى أي مدى يمكن أنْ تكون الولايات المتحدة الأمريكيَّة نموذجًا يُحتذى في لأوروبا؟
مارثا نوسباوم: أعتقد أنَّ الحظ قد حالف الولايات المتحدة الأمريكيَّة التي لم تكُن بالضرورة حميدة الأخلاق. إذا وُضِعَ في الاعتبار أننا أمَّةٌ من المهاجرين (باستثناء السكان الأصليين الذين تعرَّض معظمهم لاضطهادٍ وحشيٍ)، لم يكُن لدينا قط أيَّة إغراءاتٍ لتعريف الهويَّة القوميَّة على أساسٍ عرقيٍ-دينيٍ، بل جرى اختيار مفهومٍ للأمة يركِّز على المُثل السياسيَّة العليا ويشجِّع الهجرة. هذا لا يعني أننا لا نعاني من العنصريَّة والتعصُّب العرقي، ولكنْ على الأقل الإجابة عن السؤال الأساسي: "من هو أمريكي؟" تبقى إجابةً سياسيَّةً.
في المقابل أوروبا متأثِّرةٌ بشدةٍ بالفكر الرومنطيقي وتميل حتى الآن إلى تحديد الهويَّة القوميَّة من خلال الدين واللغة وقرابة الدم والثقافة. وربما لن يكون من السهل إحداث تغييرٍ في هذا السياق، بيد أنَّ التغيير ضروريٌ، لأنَّ المفهوم الرومنطيقي للانتماء لا يتناسب مع الواقع الراهن. والدول الأوروبيَّة كانت ترى دائمًا أنَّ لديها الخيار: فقد رفض إرنست رينان في محاضرته الشهيرة في جامعة السوربون سنة 1982 التعريف العرقي-الديني لصالح الرؤيَّة التي تقول بأنَّ الأمة تتماسك من خلال المعاناة المشتركة والتطلعات المشتركة. وأعتقد أنَّ زيارة إحدى المدن الأميركيَّة أو أيِّ حرمٍ جامعيٍ في أمريكا تُبيِّن أنَّ الناس الذين يرتدون مختلف أشكال الألبسة التي تفرضها دياناتهم، يستطيعون التعايش بسعادةٍ على أساس الاحترام المتبادل.
تذكرين في كتابك أنَّه في الولايات المتحدة الأمريكيَّة يُنْظَر إلى بعض الناس الذين يعتنقون دينٍ معينٍ وكأنَّهم يعارضون الديمقراطيَّة. هناك نقاشٌ في ألمانيا أيضًا حول ما يسمى بمحاكم الشريعة؛ ألا ينبغي فهم هذه المحاكم في المقام الأول باعتبارها مناشَدةً تسعى لنيل قبول مجتمع الأغلبيَّة؟ وهل ينبغي التسامح معها؟
مارثا نوسباوم: لدينا هنا جانبان مختلفان. أقول إنَّه في الولايات المتحدة الأمريكيَّة يجري تشجيع الأفراد على الصعيدين الاجتماعي والقانوني على حدٍّ سواء للعيش وفق تعاليمهم الدينيَّة، طالما أنَّهم لا يسبِّبون بذلك ضررًا لأحد. قال جورج واشنطن ذات مرة إنَّ الصاحبيين وأفراد طائفة المينوناتيَّة معفيون من الخدمة العسكريَّة، كما تمت مواءمة قوانين المخدرات على نحوٍ واسعٍ مع المتطلبات الدينيَّة للأمريكيين الأصليين؛ والناس الذين يعتبرون يوم الأحد يومَهم المقدَّس، يحصلون على تعويض بطالة إذا امتنعوا عن وظيفةٍ تقتضي العمل أيضًا في أيام الأحد، وينسحب الأمر نفسه على الذين يعتبرون يوم السبت يومَهم المقدَّس، وهكذا دواليك.
بيد أنَّ القانون في الولايات المتحدة الأمريكيَّة لا يسمح بأنْ تشارك الجماعات الدينيَّة الدولة في وظيفتها التشريعيَّة. وبالتالي يرى أنَّ طائفة الهندوس التي حاولت الاتحاد لتكوين مدينةٍ في ولاية أوريغون، كانت قد خالفت ما يسمى "Establishment Clause" أو شرط التأسيس (الذي يحظر إنشاء دين للدولة عبر الكونغرس أو تفضيل دينٍ على آخر أو تفضيل الأديان على عدم الأديان - توضيح المحرر)، لأن الهيئة الدينيَّة لا يمكنها أنْ تكون حكومة. طـُبق نفس المبدأ عندما حاولت مجموعة تابعة لحركة الحاسيديم اليهوديَّة تأسيس قسمٍ مدرسيٍ خاصٍ ضمن النظام المدرسي الحكومي، فهذا أمرٌ مختلِفٌ عن تلبية احتياجات الأفراد المؤمنين. لا بدَّ للحكومة من أنْ تبقى حياديَّةً وألاّ يُسمح بإدارتها دينيًا.
أما بالنسبة لمحاكم الشريعة التي تبرم عقود الزواج والطلاق لدى اليهود وغيرهم، فلا يوجد سببٌ يوجب ألاّ تكون قائمةً بشكلٍ إضافيٍ إلى النظام المدني. أي لا إشكال في أنْ يرى شخصٌ ما ضرورة أنْ يتطلَّق دينيًا إلى جانب الطلاق المدني. أما بالنسبة لعقود الزواج فتربط الولايات المتحدة الأمريكيَّة دورين بعضهما ببعض، بحيث يُسمح لكلِّ رجل دينٍ ينتمي لطائفةٍ دينيَّةٍ بعقد الزواج المدني. ولكنْ يُسمح بذلك أيضًا بالطبع لرجال القانون المحايدين وكذلك لقضاة الصلح أو للقضاة.
لكنْ من شأن مشكلةٍ أنْ تنشأ إذا جعلت جماعةٌ ما أحكام قضاء المحاكم الدينيَّة بديلًا عن الآليات المحايدة والشاملة للدولة. ومن شأن هذا أنْ يتسبب بمشاكل كثيرة، كما هي الحال في الهند مثلًا. تتحسَّن أو تسوء أحوال الناس بفعل مجالاتٍ معيَّنةٍ من القانون، وبحسب النظام الديني الذي يلتزمون به. وللأسف غالبًا ما تتنافس الأنظمة الدينيَّة أيضًا على السيطرة على النساء، فقد حصلت النساء المسيحيات في الهند مثلاً في سنة 2001 على حق الطلاق بسبب العنف الجسدي، أي بعد فترةٍ طويلةٍ من حصول غيرهن من النساء الهنديات على هذا الحق.
تدْعين في كتابك إلى إمعان التفكير وتجاوُز "الخوف النرجسي" من الفئات الاجتماعيَّة الأخرى، لكنَّ تحفظات مجتمع الأغلبيَّة في أوروبا لا تتوجه ضد الجماعات الدينيَّة وحسب، بل أيضًا ضد جماعاتٍ مثل الغجر الروم على سبيل المثال. ما مدى واقعيَّة النهج الذي تقدمينه، نظرًا إلى الخوف من هيمنة الغرباء في المجتمع أو من العواقب الاقتصاديَّة كما تشير روايات إشاعة أجواء الذعر المضادة للاستغلال المزعوم لدولة الرفاه الاجتماعي من قبل المهاجرين؟
مارثا نوسباوم: بطبيعة الحال يحق للدول وضع قواعد رشيدةٍ ومحايدةٍ للهجرة. ولكن ما يبدو لي سياسةً خاطئةً تمامًا، هو عمليَّة دعوة الناس ومن ثم معاملتها وكأنهم يشكِّلون خطرًا على المجتمع. يحدث هذا لعدم إزاحة الخوف النرجسي والنوبات الشعبويَّة بشكلٍ كافٍ. لا تزال العنصريَّة موجودةً بكثرةٍ في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، ولكنْ خلال سبعين عامًا من العمل السياسي الشاق للغاية تجاوزنا فكرة أنَّ لون البشرة السوداء يجب أنْ يكون دميمًا.
لم أدرس وضع الغجر الروم في أوروبا بشكلٍ تفصيليٍ، لكنني متأكدة من أنهم يعانون من تشويه سمعتهم. وتتوقف ماهيَّة الحقوق التي يحصلون عليها على الحالة الفرديَّة: هل هم مهاجرون "شرعيون" أو غير "شرعيين"؟ هل ولدوا في البلد أم خارج البلد؟ وهلم جرا. يتوجب على محاكم حقوق الإنسان توضيح هذه المسائل. ولكنْ للأسف، هناك مصلحة لدى بعض السياسيين في تعزيز الخوف لدى الناس الخائفين أصلاً. لا شك في أنَّ هذا التطوُّر الذي يرتسم في أوروبا إشكالي. وحتى معاداة الساميَّة تشهد عودةً جديدةً قبيحةً، على الرغم من أنني كنت سعيدة برؤية المستشارة الألمانيَّة أنغيلا ميركل تدين ذلك بحزمٍ وبشكلٍ حاسمٍ.
حاورتها: جيداء نورتش
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: موقع قنطرة ar.qantara.de