دراسات ألمانية تساهم في الحفاظ على اللغة النوبية
١٧ يوليو ٢٠٠٦تمتد أراضي النوبة في جنوب مصر لتشكل همزة الوصل بينها وبين السودان. واقترن اسم النوبة بحضارة قديمة كانت مواكبة لحضارة المصريين القدماء، بل وتعتبر جزءا لا يتجزأ منها، حيث آمن ملوك هذه الحضارة بنفس الآلهة المصرية القديمة، كما استطاع بعض هؤلاء الملوك في القرن السادس قبل الميلاد أن يعتلوا عرش مصر، ليدشنوا بذلك الأسرة الخامسة والعشرين في التاريخ المصري القديم. أما في العصر الحديث فارتبط اسم النوبة بأكبر عملية تهجير شهدتها القارة الأفريقية على الإطلاق، حينما نزح في الستينيات من القرن العشرين ما يزيد عن 120,000 نوبي عن مناطق سكنهم في جنوب مصر ليسكنوا في مناطق أخرى، وذلك بعد أن طمرت مياه النيل أراضيهم بشكل كلي، اثر إتمام مشروع السد العالي.
لغة في طريقها نحو الانقراض
إن اللغة النوبية بلهجاتها الخمسة(المحسية والفاديجا- الدنقلاوي والكنزية- لهجة البرقد- الميدوبية- لهجات جبال النوبة) لم تنل حظا وافرا من الاهتمام في مجال الدراسة، وتتعرض حاليا للأسف لخطر الانقراض والموت على المدى البعيد. ويعود ذلك إلى عاملين رئيسين: العامل الأول غلبة اللغة العربية في المناطق التي انتقل إليها النوبيون، حيث أدى ذلك إلى انزواء اللغة النوبية وتراجع استخدامها، العامل الآخر يكمن في طبيعة اللغة النوبية نفسها، وهو عدم وجود أبجدية تكتب بها، فكما هو معروف فإن اللغة النوبية هي لغة منطوقة فقط وليست مكتوبة. والجدير بالذكر، أن هذه اللغة قد تم كتابتها من قبل بحروف اللغة القبطية لفترة تتعدى سبعة قرون، منذ القرن السادس وحتى القرن الثالث عشر ميلادي، وهذا ما تدل عليه المخطوطات العديدة التي اكتشفت في منطقة قصر أبريم وغيرها من مناطق النوبة العليا في مصر. تلك النصوص تنحصر بشكل أساسي على نصوص دينية، تتناول مواضيع الكتاب المقدس.
اهتمام ألماني كبير بالغة النوبية
الدراسات الألمانية الخاصة باللغة النوبية هي دراسات علمية تهدف في المقام الأول لحفظ التراث الإنساني من الضياع، مبتعدةً عن التيارات السياسة الجارفة التي قلما ما تلتفت أو تلقي اهتماما إلى الجانب الفكري من حياتنا. ويرجع الاهتمام الألماني باللغة النوبية إلي أكثر من 120 عاما، حين أصدر عالم الآثار والمصريات ريتشارد ليبسيوس عام 1880 كتابه عن قواعد اللغة النوبية. ولقد كان لهذا الكتاب أبعاده الهامة والكبيرة، حيث لفت النظر إلى منطقة تعد بوابة للقارة السوداء بثقافتها وملامحها الخاصة التي كانت ومازالت محاطة بالكثير من الغموض وقلة الفهم. والجدير بالذكر أن الدراسات الألمانية والمتعلقة باللغة النوبية لم تتوقف حتى وقتنا الحالي، حيث يعكف الكثير من الألمان المتخصصين في الدراسات الأفريقية على دراسة اللغة النوبية، ومحاولة الحفاظ عليها وحمايتها من الضياع. ولعل من أهم الأسماء التي لمعت في مجال البحث في الدراسات الخاصة باللغة النوبية "رولاند فيرنر" " انجي هوفمان" "تانيا كومرليه" وآخرون كثيرون. احد الذين عكفوا على البحث العلمي المتعلق باللغة النوبية بلغاتها المختلفة هي السيدة " انجيليكا ياكوبي"، حيث لم تتوقف عن البحث في هذا المجال منذ أكثر من عشرين عاما. موقعنا حرص على مقابلة السيدة ياكوبي لتدلي لتوضح لنا أهم المشاكل والعوائق التي تواجهها اللغة النوبية.
دويتشه فيله: ما هو سر اهتمامك منذ البداية باللغة النوبية؟
السيدة ياكوبي: إن دراستي في مجال العلوم الأفريقية بجامعة بايرويت في جنوب ألمانيا كانت بداية تعرفي باللغات واللهجات الأفريقية المختلفة، لكن اللغة النوبية قد جذبتني منذ البداية واستهوتني الدراسة في هذا المجال، واتيحت لي الفرصة الأولى الحقيقية للاحتكاك المباشر بهذه اللغة بلهجاتها المختلفة أثناء البعثة العلمية التي نظمتها جامعة بايرويت والتي كنت احد المشتركين فيها، والتي كانت تهدف إلى دراسة وتسجيل اللهجات النوبية في السودان وتحديدا في منطقة كوردوفان.
تحدث السيد هيرمان بيل اثناء تقديمه لكتابك " اللغات النوبية " عن نهضة فكرية وثقافية للنوبيين. ما هو تقييمك لهذه النهضة، وما هي أبعادها؟
إن النهضة الفكرية التي تحدث عنها السيد بيل هي موجودة بالفعل، وهي ملموسة بشكل واضح وسط المثقفين النوبيين الموجودين في السودان. إن هذه النهضة الفكرية، والتي يربو عمرها على عقدين من الزمان، بدأت في السودان كرد فعل لعمليات تهميش الأقليات اللغوية، ومحاولة فرض اللغة العربية وجعلها اللغة الأساسية المستخدمة في الحياة اليومية. إن هذه الطبقة الواعية من المثقفين أدركت العواقب الوخيمة المرتبة على هذا الأمر، حيث أن إهمال أي لغة ومنع الحديث بها يعرضها بالتأكيد إلى الضياع في فترة لا تتعدي عقود معدودة. من هنا كان حرصهم على عمل دراسات خاصة لهذه اللهجات المختلفة، منها ما تم نشره وأخرى في طريقها إلى النشر.
هل تعتقدين حقا أن هناك العديد من اللهجات النوبية معرض للانقراض؟
هناك بعض اللهجات التي تعرضت بالفعل للانقراض، مثل اللهجة البرقد، حيث لا يوجد حاليا في هذا الإقليم من يتحدث هذه اللهجة، كما أن الميدوبية في دارفور هي أيضا في طريقها إلى الانقراض، وكذلك هو الحال في أقاليم أخرى مثل دنقلة شمال السودان، فاللهجة الدنقلاوية قد تم تهميشها بشكل واضح.
كما هو معروف، فقد تم كتابة اللغة النوبية في عصور سابقة قديمة بحروف اللغة القبطية، لكن اللغة النوبية الحالية قد تم كتابتها من قبل البعض مثل "عون الشريف قاسم " بحروف اللغة العربية، بينما قام البعض الآخر مثل " صمويل علي حسين " بكتابتها بالحروف اللاتينية. ما هي الحروف المثلى التي تصلح لكتابة اللغة وتسجيلها لحمايتها من الضياع؟
إن اللغة العربية لا تصلح لمثل هذا الدور، حيث أن الحروف المتحركة في اللغة العربية مقصورة على ثلاثة حروف فقط، بينما توجد في النوبية خمس حروف متحركة. إن الحروف اللاتينية تصلح إلى حد بعيد لكتابة اللغة النوبية، وقد كتبت بالفعل من قبل العديد من النصوص النوبية بالحروف اللاتينية، ونحن نستطيع حتى يومنا هذا قراءتها دون أي صعوبات. والجدير بالذكر أن البروفسور محمد مختار خليل عندما ألف كتب تعليم اللغة النوبية حرص على كتابتها بحروفها القبطية القديمة، الأمر الذي ساهم في تجسيد وفهم اللغة النوبية الحالية.