جعفر عبد الكريم: هرم للإندماج نصيحتي للمستشارة ميركل
٢٠ أكتوبر ٢٠١٥تواجه أنغيلا ميركل حاليا انتقادات من كل حدب وصوب، فيما تشهد شعبيتها تراجعا ملحوظا في استطلاعات الرأي. لكن المستشارة ما تزال واثقة من نفسها وتردد في المقابلات المتلفزة شعاراتها المطمئنة على نحو "سننجح" و"لدي خطة". وبما أنها الوحيدة التي تعرف مضمون خطتها حتى الآن، أود أن أغتنم الفرصة وأقترح خطتي أنا، بيد أني واع بأني لست في منصب المستشار بعد. لكني أنا أيضا أؤمن بأننا سننجح.
عزيزتي السيدة ميركل
ثقافة الترحيب الجديدة في ألمانيا أمر رائع جدا. لكن من المهم الآن ترجمة هذه الثقافة إلى سياسة حقيقية ومستديمة. فبالرغم من أن الكثيرين أصيبوا بالهلع إزاء الأعداد الهائلة من اللاجئين التي وصلت، إلا أني لا أرى أن مهمة إدماجهم ستكون بهذه الصعوبة. أنا واثق من أننا سنرفع التحدي، عبر خطة تستند على هرم احتياجات، أسميه "هرم جعفر للاندماج" ويتكون من خمس درجات متتابعة:
الأمان – تقبل الآخر – الثقة– الحرية– الموطن
من الضروري تلبية هذه الاحتياجات درجة تلو الأخرى، ابتداءا بأسفلها ووصولا إلى أعلاها، بيد أن على الجميع أن يتعاونوا من أجل إنجاح الاندماج، سواء كانوا لاجئين أو سكان محليين.
الأمان
لا يشك أحد في أن اللاجئين الذين يصلون ألمانيا يعانون من قلق وخوف كبيرين، فمعظمهم أصيبوا بصدمات كبيرة جراء ما عاشوه في بلدانهم وأثناء نزوحهم الشاق. والآن يتواجدون هنا في عالم غريب عليهم لا يفقهون لغته.
صحيح أن أول احتكاك للاجئين بهذا العالم الغريب حصل داخل محطات القطار الألمانية، حيث قوبلوا بترحيب حار. لكن هذه الحفاوة يتلوها بطبيعة الحال واقع مكاتب الهجرة في ألمانيا. فكيف يعامل اللاجئون في هذه الأماكن؟ صدقوني أن مدى وجود موظفين لطفاء هنا يترك أثرا كبيرا في نفوس اللاجئين! أتذكر جيدا الساعات التي أمضيتها في انتظار دوري في مكتب الهجرة. أتذكر أن مجرد ابتسامة على وجه الموظف كانت تكفي لمنحي الشعور بالسعادة، لأني فسرتها على أنه سيسمح لي بالبقاء في ألمانيا. كل هذا بالرغم من أني لم أكن لاجئا، وإنما جئت إلى ألمانيا من أجل الدراسة وكنت أتقن الألمانية قبلها. لكني كمهاجر كنت أشعر بأن مصيري كله في يد هؤلاء الموظفين.
لقد زرت مؤخرا مكتب برلين للشؤون الصحية والاجتماعية المعني باللاجئين وصدمت بالأوضاع الكارثية هناك، بالرغم من أن الموظفين يبذلون قصارى جهدهم من أجل مساعدتهم. معظم اللاجئين المتجمعين هناك كانوا ساخطين. رأيت طفلا مستلقيا على الأرض ويرتعد بردا. تكلمت مع لاجئ يأتي إلى هنا منذ عشرين يوما من دون أن يعرف متى يصل دوره في الطابور. لم أتوقع أبدا أن أرى مثل هذه المشاهد في برلين، لذلك فمن الملح جدا توفير عدد كاف من الموظفين فورا، حتى لا تتجاوز مهامهم طاقتهم.
سيدة ميركل، الطريق الذي تسيرين عليه محفوف بالألغام. قلقي يزداد مع اقتراب الشتاء المقبل، فإذا لم يتم إيواء كافة اللاجئين في ملاجئ تقيهم من البرد والأمطار والثلوج، ستحل قريبا صور أطفال يرجفون من البرد محل السلفيهات الجميلة، وحينما يتداول الإعلام هذه الصور، فسيساهم ذلك في انتشار الخوف والقلق.
هناك نقطة أخرى في غاية الأهمية ويتعين معالجتها فورا، ألا وهي تعريف الوافدين على ألمانيا بأكبر قدر ممكن فهذا سيساهم في تعزيز شعورهم بالأمان والطمأنينة. لذلك ينبغي توفير دروس إلزامية فورا عقب وصول اللاجئين، من أجل تعليمهم اللغة الألمانية وتسهيل الاندماج، خاصة وأنهم يملكون أثناء مكوثهم في ملاجئهم الكثير من وقت الفراغ الذين يمكنهم الاستفادة منه.
تقبل الآخر
بغض النظر عن موقف كل واحد من الموضوع، إلا أن اللاجئين أصبحوا موجودين هنا على كل حال وسوف يبقون مبدئيا. هناك من لا يعجبه الأمر، لذلك يجب القيام بحملة توعية كبيرة وهذه المهمة تقع على كاهل السياسيين.
مما لا جدل فيه أن سكان ألمانيا يراوحون الثمانين مليون نسمة، وحتى إذا ما وصل ألمانيا في هذا العام مليون ونصف المليون من اللاجئين، وهو عدد غير مؤكد، فينبغي ألا يغيب عن ناظرينا نسبية هذا الرقم الذي لا يمثل حتى 2 % من مجمل السكان. الحديث في هذا السياق عن الاغتراب وتهديد ما يسمى بالقيم الألمانية يكاد يأخذ طابعا هستيريا. فألمانيا لا تضيق بهذا العدد وفيها متسع للجميع. الكثير من القرى والمدن الصغرى، خاصة في شرق البلاد، تعاني من تراجع كبير في عدد السكان وتحتاج بشكل مستعجل إلى من يعمرها ويملؤها بالحياة للحفاظ على بناها التحتية.
إذا سمح للاجئين علاوة على ذلك بالمساهمة في إنتاجية ألمانيا، فإن ذلك سيمكنهم من دفع الضرائب والمشاركة في الرخاء العام، وهو ما سيحول دون تنامي الشعور بأنهم يعيشون على حساب السكان المحليين. لذلك فمن غير المفيد منع اللاجئين من العمل طيلة أشهر، بالرغم من كونهم متحمسين جدا لذلك، ويجب تغيير القوانين المعنية حتى لا تفشل سياسة الاندماج.
عزيزتي السيدة ميركل، كما تعرفين، ففي حال عدم تقبل المجتمع لهم، سيصبح اللاجئون شماعة تعلق عليها حتى المشاكل التي كانت موجودة قبل بداية أزمة اللاجئين. وبالفعل بدأت أسمع من حوالي بين الفينة والأخرى أن مقاعد رياض الأطفال باتت نادرة، لكننا نعرف جيدا أن اللاجئين ليسوا السبب في ذلك.
"انتظر لحظة"، سيقول الآن بعض المحتجين. "ماذا عن مقاتلي تنظيم داعش المندسين وسط اللاجئين؟"قد يكون صحيحا أنهم موجودون وأن عددهم يتزايد حاليا، لكن نسبتهم من مجمل اللاجئين تبقى ضئيلة جدا. ثم علينا ألا ننسى بأن مشكلة داعش هي الأخرى كانت موجودة من قبل: فالسنوات السابقة شهدت انضمام عدد من الشبان المسلمين الألمان لهذا التنظيم، ولا ينكر أحد أنهم يساهمون في المحنة التي اضطرت اللاجئين للجوء. مكافحة أسباب التطرف مهمة ضخمة ملقاة على عاتقنا جميعا، ومن واجبنا أيضا أن نمنع وصم اللاجئين بتهمة الإرهاب، تماما كما كنا قد نجحنا في الحيلولة دون وصم المسلمين بالإرهاب من قبل.
أنا أنظر إلى المواطنين الجدد باعتبارهم يتواجدون في حالة تنزيل دائمة للمعلومات المحيطة بهم، فهم يجمعون كل ما يرونه ويعيشونه. لكن اتصالهم بالمجتمع في ألمانيا ما زال هشا، تقريبا وكأنهم في شبكة انترنت لاسلكية غير مستقرة. لذلك علينا أن نسهر جميعا على عدم انقطاع هذا الاتصال.
الثقة
تحقيق الأمان وتقبل الآخرين لا يعني أن المهمة أنجزت. فالثقة المتبادلة كذلك ضرورية، لأن المهاجرين واللاجئين جزء من المجتمع ويمكن أن يكونوا إثراء له. وجود أمثلة تفيد العكس أمر لا جدل فيه، لكن من غير المجدي والمنصف تركيز الضوء عليها فقط ودائما. التعميمات في كل الاتجاهات غير عادلة - كأن يزعم بأن كل الألمان يدعمون حركة بيغيدا العنصرية والمعادية للمسلمين.
أهمية الثقة تكمن في أنها تربط بين الناس وبدونها ستفشل سياسة الاندماج. بدون منحهم الثقة سيتقوقع اللاجئون على أنفسهم مثلما فعل الكثير من المهاجرين قبلهم وسيكونون مجتمعات موازية ويعيشون في أحياء منفصلة. حينها سيتبرؤون من ألمانيا ويرفضونها عاطفيا.
لا أحد يستطيع مد جسور الثقة اللازمة أحسن من المهاجرين الذين يعيشون في ألمانيا منذ عقود. هم أيضا يستحقون ثقة أكبر، لأنهم يتقنون لغة اللاجئين ويعرفون عقلياتهم.
عزيزتي السيدة ميركل، لقد قلتِ مرة إن المسافة بين المشاهد والسيلفي أصغر من التي بينه وبين الصورة العادية، وأضفت بأن ذلك يكمن في طبيعة السيلفي. وأنا أقول إن المسافة بين الألمان المنحدرين من أصول مهاجرة وبين اللاجئين أصغر من تلك التي بينهم وبين الألمان الأصليين. هذا يكمن أيضا في طبيعة المهاجر المندمج.
في المقابل، من الضروري أيضا أن يطور اللاجئون شعورهم بالثقة تجاه الدولة والنظام القانوني الألمانيين. فمعظهم لم يعيشوا تحت قضاء مستقل ولديهم خبرة سيئة مع سلطات بلادهم. صحيح أن ألمانيا ليست مثالية هي الأخرى، لكن يجب أن تحل الثقة وسط اللاجئين محل الخوف من النظام.
الحرية
الأمان وتقبل الآخر والثقة عوامل أساسية للاندماج، لكن الإنسان في حاجة إلى المزيد حتى يعيش في ظروف إنسانية، يحتاج إلى الشعور بالحرية ويحتاج إلى الإجابة على السؤال حول هويته وماهيته. حتى هؤلاء الذين نسميهم حاليا لاجئين سيطرحون هذه الأسئلة، ومن المهم ألا تكون الأجوبة التي يتلقونها محددة بكونهم قادمين من دولة أخرى. من الحرية أن يختاروا بأنفسهم الدور الذي يودون لعبه في المجتمع وألا يطالبهم أحد بالشعور بأنهم ألمان، فهذا موقف شخصي يجب أن يترك لهم تحديده. صحيح أن عليهم الالتزام بالقوانين والقيم الألمانية بطبيعة الحال، لكن ذلك لا يعطي السؤال حول الهوية إجابة شافية. فكل شخص يحمل في داخله ما حيا الثقافة التي ترعرع فيها، وعليه فلن يكف اللاجئون السوريون عن الشعور بانتمائهم لسوريا لمجرد انتقالهم إلى ألمانيا.
من جانب آخر ليست الهوية الألمانية مهددة بالزوال بمجرد تمسك اللاجئ بهويته العربية. فالهوية ليست أمرا أحاديا وإنما مزيج مركب يجب أن يوفر المساحة اللازمة لتطور الفرد. لذلك ينبغي ألا يفرض على أحد اختيار جنسية واحدة، فالطاقة الكامنة فيه يجسدها هذا المزيج، فيما تهدر لو فرض عليه التخيير الظالم لشخصيته.
الأمر ذاته ينطبق على الدين. عزيزتي السيدة ميركل، أرجو أن تسهري على أن يتمكن اللاجئون من ممارسة طقوس دينهم إذا أرادوا ذلك والتزموا بالقانون الأساسي الألماني. فالدين في ألمانيا خيار شخصي، ولا ينبغي أن يضطر أحد للتصنع بسبب شخص آخر أو بدافع الخوف. كما لا ينبغي أن يفرض أحد على أحد نمط حياة ما أو مظهرا معينا.
الموطن
سيمضي العديد من اللاجئين السنوات المقبلة باحثين عن موطن لهم. وحتى من استقرت بهم الأوضاع في مدن ألمانية سيتساءلون بين الفينة والأخرى عما إذا كانوا يريدون البقاء في ألمانيا أم العودة إلى موطنهم إذا ما حل به السلام مجددا. طرح هذا السؤال لا يعبر عن شعورهم بعدم الانتماء إلى ألمانيا أو عن وجود خلل في هويتهم الألمانية، بل ينجم عن تمزقهم وحيرتهم الدائمين بين البلدين، لأنهم لن يشعروا بأنهم ألمان مائة في المائة، ولكنهم لن يحظوا أيضا بقبول تام في مواطنهم الأصلية، لأنهم غادروها. لذلك سيكون موطن اللاجئين أينما عاشوا وأحبوا وقوبلوا بتفهم وتقبل. حتى أنا أعرف هذا التمزق الداخلي جيدا، ففي الأصل جئت إلى ألمانيا من أجل الدراسة فقط، ولكن، وبدون أن أتوقع ذلك، تحولت البلاد إلى موطني، لأني أشعر هنا بالأمان وبتقبل محيطي لي ومنحي ثقتهم. هكذا صرت أشعر بأني جزء من ألمانيا وبت قادرا على هز مشاعر سكانها.
من يشعر بالانتماء إلى مجتمع معين ويرى فيه موطنا له، يتحمل أكثر ولا يشعر بالنفي جراء بعض النقد. هذا يقتضي بطبيعة الحال ثقة كبيرة في الذات من جهة، لكنه يتطلب أيضا الاقتناع بانتمائهم. أنا مقتنع بأن اللاجئين يريدون الانتماء إلى المجتمع الألماني، حتى وإن كانوا سيرتكبون أخطاء نحوية، حتى إذا كانوا سيتمكسون ببعض العادات التي يراها الألمان غريبة.
عندما أشاهد مباريات المنتخب الألماني في هذه الأيام، يعجبني كثيرا المزيج الثقافي الذي يكونه، لأنه يعكس بالفعل المزيج الذي يقوم عليه المجتمع. كرة القدم في ألمانيا نموذج جيد للاندماج الناجح والعديد يستطيعون التماهي به. هذا أمر رائع، خاصة لأننا أبطال العالم.
لذلك عزيزتي السيدة ميركل ومواطني الألمان الأعزاء: نعم، سننجح!
جعفر عبد الكريم، 33 عاما، هو المحرر المسؤول ومقدم البرنامج الحواري شباب توك الذي تبثه قناة DW عربية، والذي يخاطب الملايين من الشباب العربي من المحيط إلى الخليج عبر مواضيع ناقدة للمجتمع. ولد جعفر عبد الكريم في ليبيريا لأبوين لبنانيين، وترعرع في سويسرا ولبنان، ودرس في دريسدن الألمانية وليون الفرنسية، بالإضافة إلى لندن وبرلين، حيث يقيم حاليا.
عن موقع Zeitonline