تونس- حديث الرئيس عن "مؤامرة" يثير مخاوف مهاجري جنوب الصحراء
٢٦ فبراير ٢٠٢٣يشعر الطالب سيدريك تومب القادم من الكونغو الديمقراطية بقلق بالغ بشأن مستقبله الدراسي في تونس. والسبب خطاب ألقاه الرئيس التونسي قيس سعيد بشأن "مؤامرة" تحاك ضد تونس لتغيير تركيبتها الديمغرافية بسبب التدفق الكبير للمهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، الأمر الذي أحدث صدمة ومخاوف في نفوسهم.
ومع أن الرئيس سعيد خص في خطابه المفاجئ المهاجرين المقيمين بشكل غير قانوني، إلا أن آثار الخطاب في الشارع لم تستثن أحدا من مواطني الدول المعنية، وسط حملة مثيرة للجدل في بلد حمل لفترات طويلة اسم القارة "أفريقيا".
حل سيدريك البالغ من العمر 21 عام بتونس منذ أربعة أشهر وهو يدرس بسنته الجامعية الأولى في جامعة "تايم" الخاصة بقلب العاصمة التي يمثل طلبة دول أفريقيا جنوب الصحراء نحو 90 بالمئة من إجمالي الدارسين فيها. وحتى بداية شهر فبراير/ شباط كان الوضع جيدا بالنسبة للطالب الكنغولي إلى أن جاء خطاب الرئيس سعيد.
يروي سيدريك لـDW عربية ما حدث له ويقول "يبدو أن عددا لا بأس به من التونسيين قد تلقفوا بشكل سلبي خطاب الرئيس. عندما صعدت إلى المترو بدأ بعض الشباب بترديد أصوات القردة، كانوا يضحكون وبعضهم بدأ بلمسي. كانت صدمة بالنسبة لي لم يحصل أن واجهت هذا الموقف العنصري منذ قدومي إلى تونس".
وتابع الشاب في شهادته "عندما نزلت من المترو كان هناك رجال شرطة في المحطة. كانوا يشاهدون ما يحدث لكنهم لم يحركوا ساكنا. لسنا في وضع مريح الآن ولا نعرف كيف سنتصرف".
لم يتخذ سيدريك أي قرار بعد بشأن دراسته، لكن عائلته أمهلت البت في مصير بقاء ابنها لمدة أسبوع ريثما تتضح الأمور وإلى أين تتجه الأوضاع في تونس والخطوات التي ستتخدها السلطات الرسمية. في الأثناء أوقفت المؤسسة الجامعية الدروس بعد تخلف كثير من الطلبة عن القدوم وأحدثت "خلية أزمة" يشارك فيها طلبة من دول أفريقيا جنوب الصحراء لمتابعة الوضع على الأرض.
"خلية أزمة"
قال وليد بن خالد الذي يعمل موظفا ومرافقا لشؤون الطلبة بجامعة "تايم" لـDW عربية "ما حدث زلزال بقوة زلزال تركيا، أحدث ارتدادات في عدد من الدول الأفريقية. الأصداء ليست جيدة، وهناك ما يشبه حملة مريبة على مواقع التواصل الاجتماعي تشارك فيها حسابات مزيفة تبث خطابات مسمومة. لماذا يحدث كل هذا الآن؟".
مع ذلك لا يستبعد وليد حدوث ضربة لقطاع التعليم الجامعي الخاص في تونس والذي يستقطب الآلاف من الطلبة من دول أفريقيا جنوب الصحراء في ظل الجدل الدائر ومع دعوة عدد من هذه الدول لسفراء تونس المتعمدين لديها للاستفسار بشأن ما يحدث لرعاياها.
ووسط تلك المخاوف لا يتوقف الهاتف الخلوي لوليد عن الرنين بسبب الإيقافات المتكررة للطلبة، حيث يلعب وليد دور الوساطة وتقديم الضمانات الإدارية للأجهزة الأمنية من أجل إخلاء سبيل الموقوفين بعد التثبت في هوياتهم ودواعي تواجدهم في تونس.
ويعمل أيضا سليمان كالي وهو طالب من مالي قدم إلىتونس منذ عام 2016 ويدرس المحاسبة المالية ضمن خلية الأزمة. ويقول لـ DW عربية "نعمل على الانصات إلى الطلبة وتبديد الصعوبات البيروقراطية التي تعترضهم أو المشاكل الطارئة مع أجهزة الأمن".
بدأت الشرطة منذ نحو أسبوعين حملتها للتثبت في أوضاع الطلبة حتى قبل خطاب الرئيس قيس سعيد، لكن سليمان لاحظ أن الأمر تفاقم بعد الخطاب المشدد. ويضيف لـDW عربية "هم يعلمون أن الكثير من الطلبة لا تزال أوضاعهم معلقة بسبب عدم حيازتهم للوثائق الرسمية اللازمة من مؤسسات الدولة".
تعمل خلية الأزمة داخل المؤسسة على تسريع حصول الطلبة على وثائقهم الرسمية من بينها بطاقة الطالب ووصولات خلاص الدراسة وغيرها من الوثائق الضرورية التي تحتاجها الإدارة لتسوية أوضاعهم وإقاماتهم.
ولا يخفي سليمان صدمته مما يجري، معلقا على ذلك في حديثه "منذ قدومي إلى تونس قبل ست سنوات لم ألاحظ مثل هذه الحملة. هذا الأمر مستجد. وحتى أكون واضحا: التونسيون شعب متصالح ومنفتح ولم يحصل أن تعرضت للإهانة أو التمييز".
"مؤامرة" ضد تونس! ممن؟
قال الرئيس قيس سعيد في خطابه إن التدفق الكبير لمهاجري أفريقيا جنوب الصحراء على البلاد يمثل "وضعا غير طبيعي"، مشيرا في اجتماع لمجلس الأمن القومي خصص للمسألة "إلى ترتيب إجرامي" يتم إعداده "لتغيير التركيبة السكانية لتونس" متهما جهات لم يسمها بتلقي أموال طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس.
لا يعد كلام الرئيس سعيد مفاجئا لأصوات بدأت تخرج بالفعل إلى العلن في تونس مقتفيه أثر اليمين المتطرف في دول الضفة الشمالية للمتوسط مع دعوات متزايدة لترحيل مهاجري دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى دولهم.
وتجد أفكار سعيد هوى لدى منتسبي "الحزب القومي التونسي" الذي اختص بما يسميه محاربة "الاستيطان الإجصي". ويرمز مصطلح "إجصي" إلى المهاجرين الذين ينحدرون من دول جنوب الصحراء.
ويفسر العضو بالحزب سفيان الصغير في حديثه مع DW عربية تلك الأطروحة قائلا "مما لا شك نحن أمام مشروع استيطان وتوطين جديد في تونس، مثلما حدث في الشرق الأوسط. يحصل هذا بدعم أوروبي عبر التمكين الاقتصادي والاجتماعي حتى لا يذهب مهاجرو دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى بلدانهم".
وبدأ الحزب الذي يحظى بمتابعة بضع آلاف في أقصى الحالات لمنشوراته، بتسويق عريضة يطالب من خلالها بترحيل "الإجصيين" من هم في وضعية غير قانونية أو من يرتكب جريمة في تونس أو يمس بالأمن العام وفرض التأشيرة على دول جنوب الصحراء.
ويستفيد الحزب والأصوات المؤيدة لدعواته من القلاقل المتواترة في عدد من الجهات بين السكان المحليين والمهاجرين، ولا سيما في ولاية صفاقس التي تعد منصة رئيسية لموجات الهجرة غير الشرعية وأنشطة شبكات تهريب البشر، إضافة إلى شكاوي المواطنين في صفاقس وفي الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة مثل مناطق "سكرة" و"البحر الأزرق" وحي الصحة بمنطقة "برج الوزير"، من أعمال عنف متكررة.
وفي إفادته لـDW عربية يشير المتحدث باسم محاكم ولاية صفاقس مراد التركي، إلى ارتفاع نسبي للجريمة مثل السرقة وترويج المخدرات وتعاطي البغاء، ولكن الجرائم الأكثر شيوعا هي تلك المرتبطة بتكوين عصابات لتهريب البشر عبر البحر وهو ما يطلق عليه في تونس بجريمة "تكوين وفاق".
ويضيف التركي قائلا "بعد 2011 أصبحت اغلبالشبكات المورطة في تهريب البشر من الأجانب، ولكن النسبة الأعلى من دول أفريقيا جنوب الصحراء. لقد أصبحوا على دراية بمسارات الهجرة إذ يجري في الغالب ضبط قوارب مكتظة بالكامل من تلك الدول".
وبحسب بيانات وزارة الداخلية، فقد ضبطت وحدات الحرس البحري في عام 2022 قرابة 39 ألف مهاجر من بينهم أكثر من 27 ألفا من الأجانب أغلبهم من دول أفريقيا جنوب الصحراء.
وأكثر الأسباب التي تؤدي إلى توترات اجتماعية وسط الأحياء وفق التركي، هي المرتبطة بالخلافات الثقافية التي تشمل طرق العيش وبعض الطقوس الممارسة في الاحتفالات، والتي تتعارض مع العادات المحافظة للسكان المحليين خاصة خلال شهر رمضان.
تراكمات سابقة
ليست هناك إحصاءات رسمية موثقة وحديثة بشأن أعداد مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء. وآخر الإحصاءات التي تحدث عنها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي يعنى بمسائل الهجرة، تشير إلى حوالي 21 ألف مهاجر بينما تتحدث السلطات عن أعداد أعلى بكثير مع تسجيل تدفقات يومية عبر البحر والحدود البرية.
وسواء تعلق الأمر بأعداد كبيرة أو صغيرة، فإن صدى خطاب الرئيس قيس سعيد وصل حتى منظمة الاتحاد الافريقي التي لم تتأخر في توجيه انتقادات لاذعة إلى السلطات التونسية عبر بيان احتجاج رسمي نبه من تعارض مضمون كلمة سعيد مع روح ورسالة المنظمة.
كما جاءت الانتقادات من العشرات من منظمات المجتمع المدني التونسي في بيانات مشتركة، حيث لم تتردد في تشبيه دعوات سعيد بـ"معسكرات الإبادة" في حقبة الحرب العالمية الثانية، كما وجهت له اتهامات صريحة بممارسة "التمييز والعنصرية".
بالنسبة للخبير المتخصص في الهجرة والعضو بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر، فإن ما يحدث اليوم في تونس هو محصلة لتراكمات من ممارسات "تمييزية" ضد الأجانب منذ مرحلة ما قبل جائحة كورونا، واستمر الأمر حتى ما بعد الجائحة.
وعلاوة على ذلك يلفت الخبير في حديثه مع DW عربية إلى مسألة الإرث القانوني الذي طالما مثل وفق تقديره حجر عثرة أمام تسوية أوضاع المهاجرين، لأنه يقوم في جوهره "على شروط تمييزية وصارمة".
ويرجع رمضان بن عمر في تحليله، الزخم الذي رافق حملات التمييز ضد الأجانب، إلى التضخيم المتعمد لأعداد المهاجرين والخطر الذي يمثلونه والتسويق له على أنه مؤامرة تمهد لمشروع الاستيطان، بجانب العامل الخارجي المرتبط بالضغوطات المتزايدة من قبل الشركاء الأوروبيين منذ نحو سنة، مع تتالي زيارات المسؤولين الايطاليين والأوروبيين بسبب تحول تونس إلى منصة هجرة رئيسية للمهاجرين من جنوب الصحراء.
ويقول بن عمر "لا نتفق مع مخاوف الدولة. فيما يتعلق بالمسألة الديمغرافية والتوطين والمؤامرة. مخاوفنا تنبع دائما من السياسات الأوروبية القائمة على تحصين الحدود ومصادرة الحق في حرية التنقل. نحن اليوم نعاني من تبعات هذه المشاكل".
وتصديقا للتحفظات المعلنة من ممثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، يرفع محتجون لافتات مناوئة للسياسات الأوروبية للهجرة في وقفة احتجاجية دعت إليها منظمات حقوقية، حيث تلقي أغلبها باللائمة على القيود المشددة على حرية التنقل في حوض البحر المتوسط والضغوط الممارسة على دول الجنوب.
الحل في التسوية والإدماج
وفي حين نجح الكثير من المهاجرين الذين وصلوا إلى تونس عبر البحر والصحراء في توفير يد عاملة رخيصة للاقتصاد التونسي وسد النقص في سوق العمل في أعمال كثيرة بات يهجرها التونسيون، حيث يعملون في الحظائر ومحطات غسيل السيارات والتنظيف والمقاهي. فإن أرباب العمل يجدون اليوم صعوبات في تسوية أوضاعهم بسبب تعقيدات القوانين الجارية وتشديد الرئيس قيس سعيد على تطبيق "القانون" ضد المقيمين على غير الصيغ القانونية، أي بشكل غير شرعي مخالف للقانون.
ويعلق على ذلك رمضان بن عمر بأن "خطاب الرئيس فجر واقعا مأسويا يمنع السكن والحق في العمل والحق في الصحة بجانب عمليات طرد جماعية. عمليا هو أعطى الضوء الأخضر للتعسف على حقوق هؤلاء. أمكن للبعض الحصول على حماية من السكان المحليين لكن عددا آخر أوضاعهم كارثية".
وقد عاين المنتدى عمليات طرد جماعية في ضواحي العاصمة من مقرات سكن المهاجرين. وأفاد بن عمر بأن "امرأة حامل وجدت صعوبة بالغة في نقلها إلى المستشفى".
وتقول روضة السايبي الناشطة في الجمعية التونسية لمساندة الأقليات لـDW عربية خلال مشاركتها في وقفة احتجاجية للتضامن مع مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء، "إننا نعيش على وقع فضيحة وعمل إجرامي بحق إخواننا لمجرد أنهم جاؤوا لطلب العيش والعمل. جاؤوا إلى بلد عرف بالتسامح، فوجدوا خطابا عنصريا وفاشيا يتبناه أقصى اليمين المتطرف".
وتابعت في تعليقها بحنق "لا يمكن أن نلقي الجميع في سلة واحدة بسبب بعض الجرائم. كنت أتمنى أن يعلن الرئيس عن مؤتمر إقليمي مع الشركاء الأوروبيين لحل معضلة الهجرة".
ومن بين المقترحات التي تقدمت بها "الجمعية التونسية لمساندة الأقليات" ما سمته بالتسوية "الذكية" عبر البدء بتسوية أوضاع المهاجرين ممن طالت إقامتهم في تونس ومنحهم حق العمل لتوضيح "علاقاتهم الشغلية" ما يسمح بضخ مداخيل إضافية إلى الصناديق الاجتماعية.
وعلى الرغم من من خطابات التهدئة والتطمينات الصادرة عن الرئيس قيس سعيد ووزارة الخارجية، إلا أن وقع الأزمة كان مدويا في تونس وخارجها ولا سيما في عواصم دول أفريقية.
ويقول وليد بقلق في مكتبه بجامعة "تايم" الخاصة "الأمر الأسوأ قد حصل بالفعل". وليس واضحا كم ستحتاج تونس من الوقت حتى تتعافى صورتها من تبعات الزلزال الذي أحدثته دعوات الرئيس قيس سعيد.
ولكن بالنسبة للطالب المالي سليمان كالي فإنه لا يلقي بالا إلى الأزمة "العابرة" وفق تقديره، ويضيف بتلقائية لـDW عربية "لن أغادر تونس، وإذا وجدت فرصة للعمل سأبقى، ولما لا استقر هنا".
تونس – طارق القيزاني