"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" لخالد خليفة
٢٧ مايو ٢٠١٤لعبت رواية "مديح الكراهية"، دورًا في تشريح النظام السياسي لحزب البعث السوري وتعامل معها البعض كنبوءة لما حدث في سوريا بعد الثورة، وهي رواية تنخر تحت طبقات عميقة في الذاكرة السورية، نحو اقتفاء أثر ألم مخفي، لأحداث مدينة حماة السورية، التي راح ضحيتها إبان الثمانينيات، ما يقرب من 30 ألف شخص.
أما روايته الرابعة "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" (2013، دار العين) فقد حصلت على جائزة ميدالية نجيب محفوظ للأدب عام 2013 التي تقدمها الجامعة الأميركية في القاهرة، وكانت ثاني عمل له يصل إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" بعد "مديح الكراهية".
رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" تشريح للمجتمع السوري وحفر عميق في المكان والذات ليس عبر 40 سنة عمر حكم دولة الأسد الأب والابن ولكن عبر 200 سنة في مدينة حلب التي خضعت لتغيرات سلبتها روحها، وفقد السوريون عبرها، أحلامهم وآمالهم وأصبح منتهى أملهم اليوم البقاء على قيد الحياة، عاش الكاتب (خالد خليفة) نصف عمره في حلب والنصف الآخر في دمشق، لكن حلب لم تنته بالنسبة له كمكان مفضل للكتابة عنه، يكتب خليفة الذي يحفظ تاريخ مدينة حلب بأزيائها ومطبخها، ومعمارها المحلي والعالمي، بسهولة شديدة، لا يمكن له هو نفسه شرحها.
نّ ارتباط المؤلف بالمكان أمرٌ لا يمكن أبداً إنكاره، ولعلّ هذه الحميميّة الخاصّة ونظراً للأهمية التي يتمتع بها المكان في النص الأدبي باعتباره يساهم بشكل أو بآخر في خلق المعنى داخل النص الأدبي، فإنه -المكان- حظي بدراسات عدّة عنيت به منذ "غاستون باشلار" من خلال كتابه "شعرية المكان" الذي انطلق فيه صاحبه من نقطة أساسية مفادها أنّ البيت القديم «بيت الطفولة» هو مكان الألفة، ومركز تكييف الخيَال، هذا المكان الذي إذا ما ابتعدنا عنه نظلّ مشدودين إليه نسترجع ذكراه، انطلاقا من هذا التذكر تتّخذ صفات وملامح المكان طابعا ذاتيا وينتفي بعدها الهندسي فالأمكنة ـ تبعا لذلك ـ قد تتجاوز في بعض المواقف وظيفتها الأساسية والمتمثلة في اعتبارها إطاراً أومجرّد ديكور، لتغدوعنصراً هاماً من عناصر تطور الحدث، والمكان هنا -داخل الرواية- باعتباره ملفوظا حكائيا قائم الذات، وعنصرا من بين العناصر الفنية الأخرى المكونة للنص السردي. ولا يمكن بأي حال تناول المكان الروائي بمعزل عن باقي المكونات الأساسية في الآلة الروائية، وأن ظهور الشخصيات ونمو الأحداث التي تساهم فيها هو ما يساعدها على تشكيل البناء المكاني في النص الادبي.
يحكي خالد خليفة في روايته «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» تاريخ مدينة حلب الحديث، الذي يشكل انقلاب البعث سنة 1963 المنطلق نحو الماضي والمستقبل فيه، وكيف أسهم ذاك الانقلاب في تشويه معالم المدينة ونسف بناها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وخلف شروخا عميقة بين الناس الذين انقسموا بين مؤيد خائف من إرهاب السلطة الجديدة، وآخر معارض أُودِي به بالتقادم وتمّت تصفيته أو أذلاله ومحاولة أركاعه وأحساسه بعار الخيبة والخذلان !!
في الفصول الخمسة لروايته التي نشرتها دار العين بالقاهرة :
«حقول الخسّ»، و»جثث متفسّخة»، و»عنق ملوكي وحذاء أحمر»، و»الأم الميتة»، و»طرق غامضة»، لا يكتفي صاحب «مديح الكراهية» بتوصيف التقسيم المجتمعي الذي رسمه النظام وخطط له واشتغل عليه، بل يعود إلى جذور الكارثة والمأساة التي حلت بالشعب ..
الرواية تتناول بعمق ومهارة حياة معلمة هجرها زوجها، وشقيقها الموسيقي الشاذ وأبنائها الأربعة (سوسن، رشيد، سعاد والراوي). لكل شخصية امتداد زمني خاص بها، وآخر تشتبك فيه مع بقية الشخوص، كما لكل منهم خط روائي واضح من خلال الأحداث والمحطات المهمة، باستثناء الراوي الصوت الثالث- الذي تسرد الرواية على لسانه كأحد أبناء ، تولّى سرد العمل كفرد من العائلة دون أن يسلط الكاتب الضوء عليه. وجود البطل/ الظل أعطى للنص بعداً جمالياً خاصاً وهو أمر غير مطروق كثيراً في الروايات العربية .
دمار مادي ومعنوي
هي رواية عن الفقر والحزب والفساد والعجز والشيخوخة والعهر والشذوذ والكثير من الصرخات المكبوتة، أبطال مهمشين مضت أعمارهم في وهن، لوثت السياسة ملامح مدينتهم الجميلة، أُغتيلت أحلامهم برصاص الحزب، أنها ملحمة تروي قصة قتل الإنسانية وتوثيق الخراب الذي لحق بالارواح والمدينة في السنوات الخمسين الأخيرة، فحجم الدمار الذي لحق بمعمار مدينته حلب كان صاعقًا جدًا، وهو دمار لم يلحق بالمكان فقط، ولكن لحق بالناس أيضًا، فالأمكنة كما يقول «لا تخرب وحدها، فالمكان يخرب معه سكانه»،
يتميز السرد الروائي للكاتب بسلاسة متدفقة ولغة شعرية تضفي على الواقع المأساوي للعمل مسحة جمالية (كما في حديث الراوي عن شقيقته سعاد وهي «تقود قطارا طويلا محملا بمجموعة طيور دون أجنحة، مناقيرهم طويلة، ينشدون لها أناشيد تستعذبها، شعرها أبيض وطويل، تنظر إلى الأمام مبتسمة، ملاك لا يراه أحد). لقد أستطاع الروائي السوري» خالد خليفة» أن يحفر في أعماق ذاكرة الآلام السورية دونما تردد أو خوف، فلطالما كانت رؤية «خليفة» أن الروائي يجب أن يكون قاسيًا، إذ إن وظيفته لا تتضمن التساهل» او التماهل على الأفكار القديمة وإخفاء الحقائق، وإنما العكس تمامًا، انعكست تلك الرؤية في الرواية في المكاشفة والتعرية والتي سيطر على أجوائها حالة من اليأس الذي يخلفه الفساد الاجتماعي والإنساني الناتج عن انقلاب حزب البعث وتولي حافظ الأسد الحكم في الستينات، وما نتج عن ذلك من انقسام البلد إلى شطرين منها المؤيد للانقلاب «حكم الأسد» ومنها المعارض، وينتج الفساد والدمار هنا من عدم تقبل المعارضين للحكم، والقضاء عليهم بصور تصورها الرواية في مشاهد بشعة .
سوريا على مدار تجاوز أربعة عقود
يمتد الفضاء الزمني للرواية بين عامي 1963 و2005 هذه السنوات هي ما صنعت سوريا التي عاشها الكاتب أو التي عاشها أبناء جيله وهي التي تغيرت فيها أحلام السوريين كثيرا من الرغبة في بناء بلد ديمقراطي معاصر ومنفتح على كل الثقافات المحلية والعالمية إلى بلد مغلق، مقموع ومحكوم بثقافة الحزب الواحد وآيديولوجيته المنافقة. ويستعرض خليفة من خلال الحكايات والأحداث التي يرويها بروايته، تاريخ الديكتاتورية والعنف للحاكم والسلطة العسكرية منذ عشرات السنين، وما تمارسه من عنف ممنهج، ومصادر الحريات ، ليجد القارئ العربي نفسه يعيش في نفس الظروف والقهر العسكري وسيطرة الحاكم على البلد وكأنه يمتلكها، والقضاء على الصوت المعارض لها قبل أن يخرج مستخدمة كل الأساليب والطرق الممكنة لذلك، هذه الأساليب التي تقضي تدريجيا على الإنسانية وقد تدفع مجتمعات كاملة إلى الجنون، أو اليأس والقتل والانتحار، وهو ما أوحت به الرواية للقارئ !!.
الرواية أولا وقبل كل شئ كتابة مشكلة من مجموعة من الجمل ذات حمولة فكرية وأيديولوجية، وكل ما يصدر عن الأديب من أحداث وشخصيات يتخذ صفتة الأدبية بواسطة اللغة، ولهذا السبب تعتبر اللغة مكونا أساسيا من مكونات العمل الأدبي عامة والإبداع الروائي خاصة، واللغة بدورها لا تستقيم في الأعمال الروائية دون سرد والمقصود بالسرد، هو لغة الرواية وأسلوبها وطريقة كتابتها، أي الانتقال باللغة عبرمراحلها من الألفاظ إلى التراكيب، ثم التعابير فالدلالات، هذه اللغة هي التي تنقل الأحداث من المحيط الخارجي إلى الصور الفنية والجمالية ومن الجمل ذات الحمولة الفكرية التي حفلت بها رواية «لاسكاكين في مطابخ المدينة» وعلى سبيل المثال :
«إن القطيع أعظم اختراع لتمرير كل الافكار والفلسفات والأديان والفنون الساذجة» *
«لا يمكن الوثوق برجال تفوح من جلودهم رائحة الجرذان»*
«من العبث تزوير الموت وجعله مرادفا للحياة»*
«النسيان إعادة كاملة لرسم تفاصيل صغيرة مختبئة في مكان ما، تفاصيل نظنها حقيقية، لا نصدق إنها وهم من أوهامنا»
«دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت، إنه باب مُوارب يزداد ضيقاً حتى يخنق القاتل»*
مصائر مفجعة مؤلمة يختارها الروائي لشخصياته، تعكس عمق الفجيعة التي تحياها، الجدّ يقضي في محطة القطار التي يحلم بتحديثها ويبالغ في تشبّثه بحلمه بها، وهو الذي يحمل وسام التميّز عن عمله السابق فيها، والأب الهارب إلى أميركا مع عشيقته يعكس التنكر والوفاء لأبنائه، وتركه لهم في مهبّ رياح هوجاء عاصفة، فيما الأم غارقة في أحزانها وهموم أولادها الأربعة، والخال نزار بجنونه وموسيقاه و»مثليّته»، كما أن سوسن ترمز بدورها إلى تماهي الضحية مع الجلاد وتقاطع الحلم السلطوي بالعهر واستغلال الجسد، فيما تكون الفتاة البسيطة عار الأسرة من وجهة نظر بعض أفرادها، وخاصة الأم الناقمة عليها وعلى نفسها وتاريخها ومدينتها وزوجها وأبنائها كأن الروائي يشير إلى المتلقي ألا يتفاجأ بما يشاهده من عنف في الواقع السوري، ومن حقد على المدن وتاريخها، لأن ما كان متكتما عليه لم يكن بأقل فظاعة مما يظهر للعلن.
اقتراح لحلول ممكنة
أن مصدر قوة هذا ألعمل الروائي تكمن في أنه يحافظ على وعي القارئ كاملا أثناء متابعة القراءة، لا يطفئ بصيرته ليخدعه بلحظات استمتاع عابرة يعود بعدها إلى واقعه البائس. وأيضا أنها يحافظ على الوعي كاملا ويزيده وضوحا وألما مع زيادة متعة السرد بالاستمرار في القراءة.
إن المتتبع والمتمعن لرواية «لاسكاكين في مطابخ المدينة» يستنتج بأن هذا العمل الأدبي، لم ينجز بشكل عشوائي ولم تتم صياغته بتلقائية، بل نلاحظ بأنه عمل محكم البناء تم الإعداد له مسبقا، احترمَ المكونات الأساسية للعمل الروائي بما فيها من أحداث وشخصيات وحبكة وفضاء روائي وحوار كما أن السرد في الرواية كان نتيجة توافق بين رؤية الروائي الفنية، وما يتطلبه موضوع الرواية. والرؤية الفنية هي التي تتحكم في سير السرد والنهوض به، ليتحكم في بناء الحبكة واختيار الشخصيات وإدارة الحوار الذي يجري بينها، سواء أكان حوارا داخليا أوحوارا ذا طابع ثنائي يتمدد عبر فضاء الرواية، إنها الطريقة المثلى التي تكيف البنية الفنية مع الرؤية إلى العالم، عبر نقل الواقع وتمثله ثم التعبير عنه أدبا، ورصد العيوب، واقتراح الحلول الممكنة رغبة في رسم صورة ممكنة لواقع يهدف إلى التناغم والانسجام.
بعيدا عن الرتابة
وموضوع السرد في الرواية يحيلنا إلى نموذج آخر اعتمده «خالد خليفة» في هذه الرواية وهو السرد المؤدي إلى السيناريو السينمائي، فنجد الكاتب يتحرك باللغة وينهض بها في اتجاه حركي درامي يشعر به القارئ من خلال أصوات الشخصيات ومن خلال حركاتهم الصامتة والتي تتخلل المقاطع الصوتية عبر بياض الكتابة الروائية. كما أن عملية السرد السينمائي تظهر من خلال توظيف أسلوب تنوع أشكال الخطاب في الرواية الواحدة، فطريقة الكتابة تشعرنا وكأننا أمام مشاهد سينمائية متنوعة يعتمد فيها السيناريست على لقطات مختلفة من الواقع يسلط عليها الضوء لكي لا يشعر المتفرج بالملل (للكاتب تجارب في كتابة السيناريو السينمائي والتلفزيوني)
تبقى رواية «لاسكاكين في مطابخ المدينة» رواية حداثية تمزج بين تقنيات متعددة في الكتابة دون الخروج عن مقومات الكتابة الروائية فتأخذ من الرواية التقليدية لغة السرد المكتوبة التي تحترم مقومات الكتابة بما فيها الألفاظ المأدية للمعاني، وأنماط التركيب الخاص بالأحرف والكلمات، واستفادت من الرواية الحداثية وخاصة من التحررالنسبي لزمن السرد الروائي الطويل، والاكتفاء بالزمن السردي القصيرالمؤدي إلى المعنى من أقصرالطرق، كما استفادت من الفن السينمائي من خلال حركية الشخصيات والأصوات المؤدية للحوارات، واستغلال اللغة لأداء وظيفة التوليف البصري المنتج للدلالة البصرية والذهنية المخزونة في ذاكرة المتلقي، انها عمل روائي يوثق «العار السوري والعربي» العار الذي جلبه الدكتاتور لأمته وشعبه كما أنها رواية تؤرخ «عار شعب بأكمله ينمو ببطء..
علي المسعود: كاتب عراقي مقيم في المملكة المتحدة
المصدر: القدس العربي
http://www.alquds.co.uk
26.05.2014