٢٩ مارس ٢٠٢٠
على صعيد الاقتصاد، نحن مقبلون على عالم جديد يحمل اسم عالم ما بعد كورونا. فالنظام الاقتصادي العالمي الذي يتهدده فيروس كورونا بعواقب أخطر بكثير من عواقب الأزمة المالية العالمية 2008/ 2009، حسب تقديرات أكثر من جهة بينها صندوق النقد الدولي، لن يستمر بدعائمه الحالية القائمة على حرية نسبية للتجارة وعلى الهيمنة الأمريكية والأوروبية، التي قسمت العالم إلى قسمين، أحدهما غني متخم والآخر فقير شبه مُعدم. وبما أن اقتصادات الدول العربية وعملاتها، لاسيما في في منطقة الخليج، من أكثر الاقتصادات ارتباطاً بهذا النظام وبالدولار الأمريكي، فإنها مقبلة على هزات قاسية بتبعات اجتماعية غير مسبوقة. ومن أسباب ذلك أن تخصيص تريليوني دولار من قبل إدارة ترامب ونحو ثلاثة تريليونات من قبل دول صناعية أخرى لمواجهة كورونا يعني طباعة دولارات ويورو وعملات صعبة أخرى بكميات ضخمة وعرضها في السوق دون تغطية إنتاجية وسلعية كافية، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى التضخم وارتفاع كبير في أسعار السلع الاستهلاكية التي يستوردها العالم العربي بكثرة.
ويزيد الطين بلة أن الموارد والاحتياطات المالية العربية تنفد بسرعة على ضوء توقف السياحة وتدهور أسعار النفط بشكل غير مسبوق. ومما يعنيه ذلك أن استمرار أزمة كورونا لفترة طويلة قد يعني عدم توفر موارد مالية حتى لدعم سلع ضرورية كالخبز بشكل يؤدي إلى تفاقم أزمة البطالة والمرض والجوع بشكل لم تعرفه المنطقة العربية من قبل. ومن التبعات المحتملة لذلك حصول انتفاضات واحتجاجات قد تودي بما تبقى من بعض الاستقرار في هذه الدول.
نقص الأغذية والسلع الاستهلاكية مسألة وقت
بدأت التبعات الخطيرة بالظهور في العالم العربي قبل إغلاق الأسواق وفرض حظر التجوال خلال الأيام القليلة الماضية. فقد سبق ذلك تدهور أسعار النفط إلى أقل من 25 دولاراً للبرميل وتوقف قطاعي السياحة والسفر وحصول اختناقات في حركة التجارة وتوقف مؤسسات إنتاج كثيرة. ومن المعروف أن الدول العربية عموماً تعتمد على النفط والسياحة أو على أحدهما بشكل كبير في توفير إيراداتها المالية اللازمة لاستيراد القسم الأكبر من احتياجاتها الأساسية، حتى في مجالات الأغذية والأدوية والألبسة والبذور الزراعية ومدخلات السلع الاستهلاكية اليومية، بنسب تتراوح بين 40 إلى 60 في المائة. وتكمن المشكلة حالياً في أن الدول التي تصدر هذه المنتجات ستفضل الاحتفاظ بها كمخزون استراتيجي لمواجهة الأزمة. ويزيد الأمر صعوبة بالنسبة للدول العربية غير الزراعية ضعف نسبة الأمن الغذائي لديها وخاصة على صعيد الحبوب اللازمة لصناعة الخبز. ففي الوقت الذي ينتج فيه حتى بلد صناعي مثل ألمانيا ما يزيد عن حاجته منها، فإن الدول العربية لا تنتج محلياً أكثر من 30 إلى 50 في المائة من حاجتها من الحبوب والسكر والبقوليات ولو أن هناك بعض الاستثناءات القليلة.
أية مشكلة تواجه اقتصاد الظل؟
ومع فرض القيود والحظر على حركة الناس والتجارة ومؤسسات الإنتاج بعد انهيار أسعار النفط والشلل الذي أصاب قطاعي السياحة والسفر، يزداد الوضع صعوبة يوماً بعد يوم. فالإجراءات الجديدة ستؤدي أيضاً إلى توقف عمل ملايين الناس، لاسيما في القطاع الخاص وفي القطاعات غير الرسمية، أو ما يسمى قطاعات اقتصاد الظل، الذي تشكل 20 إلى 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية غير النفطية ونحو 10 في المائة في الدول النفطية. كما تستوعب 25 إلى 30 في المائة من العاملين في شمال أفريقيا ومصر والعراق والأردن، حسب تقديرات صندوق النقد العربي.
ويعمل القسم الأكبر من عمالة هذه القطاعات في التجارة والحرف والزراعة والخدمات اليومية اللازمة للعائلات والأفراد. وتكمن المشكلة في أن هؤلاء يعملون خارج الأطر القانونية دون تأمينات ضد البطالة أو تأمين صحي أو تقاعدي. كما أن نفقاتهم اليومية على أنفسهم وعائلاتهم مرتبطة بالدخل الذي يحصلون عليه يوماً بعد الآخر. ومن هنا يمكن لنا تصور حجم الكارثة الناتجة عن توقف عملهم على عائلاتهم، ومن جهة أخرى فإن خسائر فادحة تلحق بالاقتصاد الوطني جراء هذا التوقف. ولن تستطيع شبكات الأمان الاجتماعية العائلية مواجهة هذه المشكلة لفترة طويلة، لأن مواردها محدودة ومرتبطة إلى حد ما بمشاريع الدولة ونفقاتها الاستثمارية. كما أن المساعدات الخارجية ستكون شحيحة في ظل أزمة كورونا، التي أظهرت أنانية مفرطة على الصعيد الدولي، حيث تحاول كل دولة إنقاذ نفسها بنفسها بدلاً من تشكيل خلية أزمة عالمية في إطار الأمم المتحدة لمواجهة المشكلة.
قطاع صحي يحتاج للمليارات
خرجت الدول العربية من الأزمة المالية العالمية بخسائر قليلة أو غير ملموسة، باستثناء إمارة دبي. غير أن أزمة كورونا أصابت الجميع بشكل مفاجئ لم يكن في الحسبان. وإذا كانت ألمانيا لوحدها خصصت نحو 750 مليار يورو لمواجهة أزمة تفشي الفيروس، فإن سبع دول عربية، بينها مصر والسعودية والإمارات والمغرب، لم تتمكن من تخصيص سوى 80 مليار دولار لذلك، نصفها من نصيب الإمارات والسعودية. وإذا كان بإمكان هذه الأموال التخفيف من حدة المشكلة في المدى القريب، فإنها بالكاد قادرة على مواجهة التحدي الأخطر، ألا وهو تردي مستوى القطاع الصحي في معظم دول العالم العربي ومواجهة بعض مخاطر التضخم وارتفاع الأسعار ونقص المواد الأساسية، خاصة في الدول التي تعاني من الحروب كاليمن وسوريا وليبيا.
ويُعد قطاع الصحة من القطاعات التي أهملتها الدول أيضاً في العالم العربي، مقارنة بدول صناعية كإيطاليا وإسبانيا وألمانيا. ولكي تتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن تلك الدول بحاجة إلى دعم عاجل بعدة مليارات لشراء مسلتزمات العلاج وتجهيز أماكن استيعاب المرضى. وعلى المدى المتوسط وطويل الأجل، تعلم تجربة كورونا أن ضخ المليارات في هذا القطاع بسخاء، إلى جانب توفير الغذاء ومقومات الوعي الصحي للناس من باب الوقاية، يوفر على كل بلد أضعاف المبالغ اللازمة للعلاج في حال حالة عدم الاحتياط للحالات الطارئة والمفاجئة.
الزراعة وأهميتها الحيوية
تأتي أزمة كورونا مع بداية الموسم الزراعي في الكثير من الدول العربية، وهو الأمر الذي يشكل فرصة لتكاتف الجهود الحكومية والأهلية لزراعة مساحات مضاعفة من الأراضي بمختلف أنواع الخضار والبقوليات والحبوب بهدف زيادة الإنتاج والمخزون الاستراتيجي منها لمواجهة النقص المتوقع وارتفاع أسعارها في السوق العالمية قبل حلول الشتاء القادم. وهنا يخطر على البال مقولة كان جدي يكررها على مسامعي في قريتنا الصغيرة: "كما نزرع السهول والجبال بالقمح والشعير والعدس والحمص والذرة.. كما نزرع كل شيء ونجفف التين والطماطم واليقطين والبامياء وغيرها للشتاء.. ولم نكن بحاجة للمدينة إلا لشراء الجزم وبعض الألبسة". وعلى ضوء ما تقدم، تبدو الكلمة السحرية في التخفيف من حدة مشاكل العالم العربي في زيادة الإنتاج المحلي ونسبة الأمن الغذائي، لأن توفر الأموال لدى بعض الدول العربية لا ينفع كثيراً في حال عدم توفر إمكانية شرائها من الخارج.
إبراهيم محمد