ترامب وأردوغان يدفعان الاقتصاد التركي نحو الهاوية
٢٠ أكتوبر ٢٠١٩ربما يشكل الاتفاق الأمريكي التركي الجديد على وقف مؤقت لإطلاق النار في شمال شرق سوريا بداية لتخفيف التوتر الحاد في العلاقات الأمريكية التركية التي تزعزع استقرار الاقتصاد التركي منذ أكثر من سنة. غير أن قصور الاتفاق على بضعة أيام وغياب رؤية مشتركة لحل الخلافات المتزايدة بين واشنطن وأنقرة إضافة إلى فقدان ثقة كل من الرئيسين ترامب وأردوغان بالآخر تفتح الباب على مصراعية أمام عودة التوتر إلى أسوأ مما كان عليه حتى الآن في أية لحظة. ويدعم هذا الاعتقاد أن كلا الرئيسين عنيد ومتعجرف ولا يثبت على رأي. وقد وصلت الخلافات بينهما في الأيام الماضية إلى حد تهديد ترامب "بتدمير الاقتصاد التركي" إذا لم يوقف أردوغان هجومه العسكري على شمال شرق سوريا الذي تسبب حتى الآن بقتل المئات وتشريد عشرات الآلاف من السكان هناك. وجاء التهديد بداية في رسالة تويتر تلاها رسالة قاسية دعا فيها ترامب نظيره التركي إلى المرونة والجنوح إلى السلام في مع قوات سوريا الديمقراطية ناصحا إياه بالقول: "لا تكن متصلبا، لا تكن أحمقا". أما أردوغان الذي لا يتردد مثل ترامب في تجاوز الاعراف الدبلوماسية وتوجيه الإهانات إلى زعماء أوروبيين وعرب يختلف معهم في الرأي، فيتجاهل تهديدات ترامب تارة ويبدي بعض المرونة تارة أخرى، مثلا عندما قبل بالوقف الأخير المؤقت لإطلاق النار تحسبا من عقوبات اقتصادية قاسية تطال النظام المصرفي التركي برمته.
تهديدات مبالغ فيها
رغم أن الولايات المتحدة أقوى اقصاد في العالم وتتحكم بالكثير من مفاصل الاقتصاد العالمي، فإن تهديدات ترامب بتدمير الاقتصاد التركي مبالغ فيها. ويعود السبب الأساسي إلى أن هذا الاقتصاد متنوع ولا يعتمد على مادة أو سلع معدودة تتحكم في سوقها الولايات المتحدة، فتركيا دولة تنتج وتصدر الأغذية والألبسة وقطع التبديل والحديد والصلب والمنتجات الكيميائية وقائمة واسعة من الآلات والتجهيزات المنزلية ومواد البناء. كما أنها من البلدان التي تزدهر فيها التجارة السياحة. وفي لغة الأرقام لا تشكل السلع الأمريكية سوى 5 بالمائة من واردات تركيا التي وصلت إلى 223 مليار دولار عام 2018 مقابل 34 بالمائة للاتحاد الأوروبي و 10 بالمائة للصين وأكثر من 8 بالمائة لروسيا. أما الصادرات التركية فتذهب بالدرجة الأولى إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة حوالي 46 بالمائة وإلى روسيا والإمارات والعراق بنسبة 6 بالمائة لكل منهما، أما الولايات المتحدة فتحتل المرتبة الخامسة بنسبة 5.5 بالمائة من مجمل الصادرات التي بلغت 168 مليار دولار عام 2018.
واشنطن وسطوتها على مسارات المال
غير أن قوة الولايات المتحدة الاقتصادية ليست في حضور سلعها أو غيابها من سوق معينة، بل في تحكمها بالكثير من المفاصل والمسارات المالية لتمويل التجارة بين الدول. ومما يعنيه ذلك قدرتها على فرض عقوبات توقف التحويلات المالية عبر البنوك التركية وتجفف منابع الدولار اللازمة للتجارة الخارجية ودعم موقع العملة التركية. كما تحتاج تركيا أيضا إلى الدولار لتمويل خدمة دينها الخارجي المرتفع واستثماراتها في البنية التحتية. وعليه فاذا كانت تهديدات ترامب المتعلقة بتدمير الاقتصاد مبالغ فيها، فإن بإمكان واشنطن شل عمل قطاعات اقتصادية حيوية عديدة من خلال حظر معاملاتها المالية إذا وصلت العلاقات إلى نقطة القطيعة. غير أن الأمور لن تصل إلى هذه النقطة طالما بقيت تركيا في عضوية حلف شمال الأطلسي وهي التي تشكل بالنسبة له أهمية جيوسياسية فائقة.
ويظهر التأثير الأمريكي على القطاع المالي التركي بشكل خاص من خلال تهديدات ترامب الأخيرة والتي أفقدت الليرة نحو 6 بالمائة من قيمتها في غضون الاسبوعين الماضيين. وفي صيف العام الماضي 2018 ادت تهديدات سابقة إلى فقدانها أكثر من 30 بالمائة من قيمتها خلال أيام. ولم يفلح الاتفاق الأخير في 17 اكتوبر/ تشرين الأول في دفعها إلى التعافي مجددا سوى بنسبة 1 بالمائة. وتبدو العملة التركية اليوم من أسوأ العملات أداء بين عملات الدول الصاعدة والأكثر عرضة للتقلبات بسبب المخاطر الجيوسياسية الناتجة عن السياسة التركية تجاه سوريا وتوجه أنقرة المتزايد لتعزيز التعاون العسكري مع روسيا رغم معارضة حلفيتها التقليدية واشنطن لذلك. ويزيد الطين بلة السياسة الاقتصادية الداخلية التي تضعف ثقة المستثمرين بمستقبل تركيا كبلد مستقر. وهو الأمر الذي يظهر من خلال الهزات التي تتعرض لها البورصة التركية من فترة لأخرى. وتكمن أحد مشاكل تركيا الأساسية في أن ازدهارها الاقتصادي المعاصر اعتمد بشكل كبير على الاستثمارات الغربية التي تدفقت في فترة حكم أردوغان التي اتسمت بالانفتاح على الجيران وتعزيز الحريات والتعددية السياسية في وقدرت مؤسسة التجارة والآستثمار الألمانية حجم الدين العام بنحو 455 مليار دولار مقابل احتياطي لا يتجاوز 71 مليار دولار بحلول عام 2017. ومن المرجح أن الوضع أصبح أكثر سوءا منذ ذلك الحين على ضوء تزايد الخلافات السياسية بين أردوعان من جهة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة أخرى.
سياسة طاردة للاستثمارات
يعاني الاقتصاد التركي حاليا من أزمة لا تعود أسبابها فقط إلى تهديدات ترامب وتراجع قيمة العملة، بل إلى ركود طال معظم القطاعات الأساسية بسبب السياسة الاقتصادية المعادية للتعددية السياسية والاقتصادية التي يتبعها الرئيس أردوغان. فالصناعة التحويلة التي تشكل أكثر من 30 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي تعاني من ضعف الاستثمار والتراجع في الطلب بنسبة 9 بالمائة خلال العام الماضي. ويعاني قطاع البناء من وضع أسوأ بسبب تراجع قيمة الليرة وارتفاع أسعار المواد والمستلزمات التي أصابت الشركات الصغيرة والمتوسط بضربة موجعة. ولولا انتعاش السياحة وتزايد أعداد اللاجئين الذي رفع الطلب على المواد الاستهلاكية لعانت صناعات المواد الغذائية والألبسة من وضع مماثل. وتأتي التطورات السلبية هذه لأسباب من أبرزها المخاطر السياسية الناتجة عن تعميق الانقسام السياسي الداخلي بسبب تقييد أردوغان للحريات وملاحقته لمعارضيه من ساسة ورجال أعمال. وجاء تدخله العسكري في سوريا والمعارضة العالمية القوية لذلك لتزيد الوضع سوءا وتؤجج الخلافات بينه وبين حلفائه في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وهو الأمر الذي ينعكس سلبا على التجارة والاستثمارات المتبادلة. ويمكن وصف السياسة الاقتصادية التركية في الوقت الحالي بأنه طارده للاستثمارات أكثر منها جاذبة لها. وهو أمر يشكل طعنة قاتلة في ظهر الاقتصاد التركي الذي يحتاج لتدفق المزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية بشكل حيوي. وإذا ما استمر الوضع على هو ما هو عليه في الوقت الحالي، فإن أردوغان سيوصل اقتصاد بلاده إلى الهاوية.
ابراهيم محمد