تذهب توقعات وكالة "بلومبيرغ" و "المؤسسة الألمانية للتجارة والاستثمار/ GTAI" إلى أن الحكومة المصرية ستقوم بالتخفيض الرابع لسعر الجنيه المصري منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022. وتقول الحكومة وداعميها أن الهدف من وراء ذلك هو القضاء على السوق السوداء وتحقيق استقرار في سعره تجاه الدولار الأمريكي. وتأتي هذه الخطوة المتوقعة في وقت تشير فيه خبرة التخفيضات الأخيرة إلى أن سعر العملة المصرية لم يشهد الاستقرار المنشود تجاه العملة الأمريكية. ففي غضون أقل من عام شهدت فيه ثلاثة تخفيضات فقد الجنيه نصف قيمته تجاه الدولار الأمريكي. كما أن السعر الذي حددته الحكومة بعد كل تخفيض لم يتمكن حتى الآن من اللحاق بسعر السوق السوداء الذي يتراوح بين 35 و 37 جنيها في حين تم تحديد السعر الرسمي بأقل من 31 جنيها.
خلفية التمسك بتخفيض سعر الجنيه
رغم من هذه المعطيات ما يزال صندوق النقد الدولي مدعوما من الدول الغربية والعربية المانحة متمسكا بمزيد من التخفيض كشرط لتقديم قرض جديد بقيمة ثلاثة مليارات دولار. وهو الأمر الذي يدافع عنه جهاد أذعور مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق بالقول: " أن من بين الأولويات أن تتبنى مصر سعرا مرنا للصرف وتخفض التضخم عن طريق أدوات السياسة النقدية وخاصة أسعار الفائدة وأن تفتح مساحة أكبر للقطاع الخاص من خلال تكافؤ الفرص مع الشركات الحكومية".
في هذا الإطار يريد الصندوق من الحكومة الإسراع في عملية الإصلاح الاقتصادي التي تتضمن بيع حصة الدولة المصرية في عشرات الشركات العامة للقطاع الخاص. وتأمل الحكومة المصرية من جراء ذلك تحصيل مبلغ يُقدر بنحو 10 مليارات دولار لخدمة الديون وتمويل مشاريع ومشتريات حكومية. كما تأمل بعودة الاستثمارات الأجنبية وعلى رأسها استثمارات خليجية ترغب أيضا بالدخول في ملكية الشركات المطروحة للبيع خلال السنوات الأربع القادمة. الجدير ذكره هنا أن التقديرات تذهب إلى خروج حوالي 22 مليار دولار من مصر بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا ورفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة.
التخفيضات السابقة ومفاعليها في السوق
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، إلى أي حد يمكن لعائدات الخصخصة وتدفق الاستثمارات العربية أن تساهم في اللحاق بالطلب المتزايد على العملات الصعبة وعلى رأسها الدولار في السوق المصرية؟ فعلى الرغم من زيادة عائدات تصدير الغاز و قناة السويس والاستثمارات الخليجية وعلى رأسها الإماراتية إضافة إلى تحويلات المصريين في الخارج، فإن شراهة هذه السوق للعملة الأمريكية أبعد ما تكون عن الارتواء. ويقف وراء ذلك عدة أسباب من أبرزها العجز التجاري المزمن الذي يزيد سنويا على 30 مليار دولار رغم أكثر من نجاح على صعيد زيادة الصادرات من الغاز والخضار والفواكه ومنتجات أخرى. وتكمن صعوبات التخفيف من هذا العجز في استمرار الحاجة الماسة إلى استيراد أغذية أساسية كالقمح ومستلزمات الصناعة ومشاريع البنية التحتية الضخمة التي خططت لها الحكومة، إضافة إلى أعباء الديون الخارجية التي تزيد اليوم على 162 مليار دولار مقابل 145 مليار دولار أواخر 2021. وتقدر الأعباء المترتبة عن كل ذلك سنويا بأكثر من 40 مليار دولار خلال العام الجاري 2023.
ومن الأسباب الأخرى التي تقف وراء الطلب الشديد على الدولار إلى حد الشراهة تراجع الثقة بالعملة المصرية. ويقف وراء هذا التراجع سياسات الحكومة وعوامل خارجية أدت إلى استمرار تراجع سعرها منذ سنوات. وهو الأمر الذي يدفع المصريين والمستهلكين الذين لديهم فوائض مالية إلى العزوف عن الجنيه وتحويل أموالهم إلى الدولار وتخزينها بعيدا عن البنوك بهدف الحفاظ على قيمتها. ويدل على هذا العزوف سعر السوق السوداء الذي يسجل ارتفاعات قياسية جديدة كلما خفضت الدولة من سعر الجنيه. ومن تبعات ذلك المزيد من التراجع في سعر الجنيه والمزيد من الإفقار لأصحاب الدخل المحدود من المصريين الذين تزيد نسبتهم على ثلثي سكان البلاد الذي يزيد على 104 ملايين نسمة. كما أن التذبذب المستمر في سعر الجنيه لا يساعد على تدفق الاستثمارات الخاصة، لاسيما الأجنبية منها.
سياسة اقتصادية لا تعزز الثقة بالعملة الوطنية
تبدو الحكومة المصرية غير متحمسة للإسراع في تنفيذ ضغوط صندوق النقد الدولي للإسراع بعملية الإصلاح الاقتصادي كما يراها الأخير. ويدل على ذلك عدم اتفاق الطرفين حتى الآن على موعد إجراء مراجعة أولية لحزمة القرض الأخير بقيمة 3 مليارات دولار كان ينبغي أن تتم قبل بضعة أشهر. غير أنه وفي الوقت الذي يحصل فيه هذا البطء تستمر الحكومة في سياستها الرامية للحصول على مزيد من القروض والدعم الخارجي لاسيما الخليجي منه لتمويل مشاريع كبيرة والوفاء بالتزاماتها تجاه الديون الخارجية. ومع هذا الاستمرار وعلى ضوء التجارب السابقة فإنها توقع نفسها أكثر فأكثر في فخ الديون الذي ينعكس سلبا على استقرار العملة وتدفق الاستثمارات الأجنبية. ومن المتوقع أن يصل سعر الدولار إلى 40 جنيها أو أكثر عندما يتم التخفيض الرابع لقيمته في المستقبل القريب.
تضع معدلات التضخم العالية والمديونية الخارجية المرتفعةوالعجز الغذائي والتجاري الحكومة المصرية في وضع لا تُحسد عليه. ويزيد من وضعها الصعب الضغوط التي تمارسها الجهات المانحة للاستمرار في تنفيذ إصلاحات اقتصادية قاسية ليس من المضمون أنها ستساعد على حل المشاكل الجوهرية للاقتصاد المصري. فعلى سبيل المثال فإن عمليات الخصخصة التي تشكل أحد أعمدة الإصلاحات لم تفلح حتى الآن في رفع كفاءة هذا الاقتصاد بشكل جوهري رغم أنها تجري في مصر منذ ثمانيات القرن الماضي.
شكل الملكية لا يحدد بمفرده الكفاءة
على ضوء ذلك من المشكوك فيه أن تؤدي عمليات الخصخصة المستقبلية لشركات القطاع العام إلى تغيير جوهري إيجابي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، لاسيما وأنها تتم تحت إشراف بيروقراطية ينتشر الفساد بشكل واسع في صفوفها. وعلى ضوء ذلك فإن العقود التي ستنظمها تنطوي على خطر عدم وفاء القطاع الخاص أو تبرمه من الالتزام المتعلق بتحسين كفاءتها والاحتفاظ بأماكن العمل فيها. وفي النتيجة فإن أية عملية إصلاح اقتصادي لا ينبغي أن تركز على شكل الملكية بقدر تركيزها على تحسين كفاءة المؤسسات بغض النظر عن شكل ملكيتها. فشكل الملكية لوحدة لا يحدد مدى كفاءة هذه المؤسسة أو تلك بالنسبة للاقتصاد الوطني. ويدل على ذلك قيام الحكومات الليبرالية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتوسع حضورها في القطاع الخاص بما في ذلك المشاركة في ملكية شركات وبنوك حيوية وشراء أجزاء منها أو شرائها بالكامل منعا لانهيارها بسبب أزمات مالية أو على ضوء تبعات كورونا والحرب في أوكرانيا.
على ضوء ذلك لا بد من التأكيد على حيوية عملية الإصلاح الاقتصادي في إطار من الشفافية التي تضمن تعزيز دور القطاع الخاص وتغيير شكل الملكية دون التضحية بالمصالح العامة بما فيها حقوق العاملين. وبالنسبة إلى مصر فإن أية سياسات اقتصادية لا تؤدي إلى تقليص العجز التجاري باتجاه إحداث توازن بين الواردات والصادرات لن تقود إلى استقرار العملة وإعادة الثقة بين المستثمرين ورجال الأعمال المتطلعين للعمل في السوق المصرية.
إبراهيم محمد