تحليل: انتعاش الصين منقذ لألمانيا.. ماذا عن أمريكا والعرب؟
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٠سياسياً يستمر احتدام المعارك الدبلوماسية بين الغرب والصين لأٍسباب تتجاوز الخلافات حول حقوق الإنسان إلى قضايا أخرى أحدثها اتهام بكين بإخفاء معلومات عن انتشار فيروس كورونا وخطورته. لكن على العكس من ذلك تبدو بكين وكأنها ربحت شوطاً هاماً في المعركة الاقتصادية لمواجهة تبعات الفيروس وتجاوزها. ففي الوقت الذي يتزايد فيه الحديث عن إغلاقات شاملة ثانية في أوروبا ودول أخرى بسبب اتساع نطاق الموجة الثانية من الفيروس، تعلن الصين عن إحصاءات تثير الحيرة والدهشة.
فقد أظهرت بياناتها قبل أيام أن الاقتصاد الصيني نما بنحو 5 بالمائة خلال الربع الثالث مقابل ما يزيد على 3 بالمائة خلال الربع الثاني من العام الجاري 2020. وتبدو هذه المعطيات واقعية رغم شكوك محللين في صحتها. وهذا ما يؤكد عليه ماكس تسينجلاين، كبير الاقتصاديين في معهد برلين ميركاتور للدراسات الصينية "ميريكس": "أنا متفائل بقدرة الصين على الخروج من الأزمة"، مضيفاً بأن "الحكومة الصينية تمكنت من إدارتها بشكل جيد واستطاعت احتواء العواقب الاقتصادية، لاسيما على الطبقة الوسطى" أحد أهم محركات الاقتصاد الصيني.
بكين تزاحم واشنطن على الصدارة
ويجد هذا النجاح انعكاساته في مؤشرات إضافية مثل تراجع معدلات التضخم ونمو الإنتاج الصناعي الصيني بنحو 7 بالمائة إضافة إلى نهضة في قطاع السياحة. كما نمت الواردات الصينية بأكثر من 13 بالمائة والصادرات بنحو 10 بالمائة خلال الشهرين الماضيين. وعلى ضوء ذلك تذهب وكالة عالمية متخصصة مثل وكالة بلومبيرغ للأنباء إلى حد القول إن جائحة كورونا ستؤدي إلى "تحول دائم في نمو الاقتصاد العالمي بما يدفع الصين إلى المقدمة أكثر".
وتتوقع الوكالة استناداً إلى بيانات صندوق النقد الدولي مساهمة صينية بنحو 27 بالمائة من إجمالي النمو العالمي مقابل أقل من 12 بالمائة للولايات المتحدة خلال العام المقبل 2021. ومما يعنيه ذلك أن الصين ستكون بمثابة قاطرة هذا النمو مستقبلاً إذا أخذنا بعين الاعتبار دلائل كثيرة تشير إلى استمرار زخمه خلال السنوات القادمة لأكثر من سبب.
إجراءات الصين في زمن كورونا
يستمد النمو الصيني زخمه من عوامل وأسباب عديدة تكمل بعضها البعض. بداية سبقت بكين الآخرين في احتواء انتشار الفيروس عن طريق إجراءات صارمة تتضمن فرض الفحوصات الجماعية والتحكم بالتجوال تحت رقابة الجهات الحكومية المعنية والحزب الشيوعي الحاكم.
وبفضل هذا الاحتواء أعادت الحكومة الصينية فتح المصانع والأسواق بالتوازي مع برامج دعم مالية سخية دعمت دور الطبقة الوسطى بالدرجة الأولى وحافظت على أماكن العمل في وجه الجائحة. وعلى سبيل المثال خصصت لقطاع التجارة الخارجية لوحده دعماً يصل إلى نحو 128 مليار دولار.
ومع تخفيض الضرائب وتقديم قروض طارئة وقسائم تسوق للمستهلكين زاد الطلب المحلي على السلع بنسبة تزيد على 3 بالمائة مؤخراً مقارنة مع بداية العام الجاري. ومع استمرار إجراءات التحفيز هذه لا بد من القول إن أمام الصين فرصاً كثيرة لزيادة هذه الطلب في السنوات القادمة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن السوق الداخلية الصينية الضخمة التي تضم 1.3 مليار مستهلك، كانت حتى قبل الجائحة متعطشة لمختلف أنواع السلع بسبب التركيز على الصادرات في الماضي.
ويشكل هذه التعطش ميزة نادرة للصين في الوقت الحاضر تستطيع بفضلها التخفيف من التبعات السلبية لتراجع الصادرات بفعل تبعات كورونا والعقوبات التي يفرضها الرئيس ترامب على استيراد البضائع الصينية. وهكذا عادت الشركات الصينية للانتعاش بسبب تمكنها من تصريف منتجات أكثر داخل الصين التي يرتفع الطلب المحلي فيها على السلع المعمرة كالأجهزة الإلكترونية والمستلزمات الطبية والسيارات ووسائط النقل الأخرى.
وفي نفس الوقت ازدادت الصادرات الصينية من سلع كالكمامات والمعدات الطبية والأجهزة الإلكترونية المنزلية إلى دول غير الولايات المتحدة بسبب زيادة الطلب عليها بعد اندلاع جائحة كورونا. ومن هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر ألمانيا وفرنسا والنمسا ودول جنوب شرق آسيا وإيران والعدد الأكبر من الدول العربية. وقد أدت زيادة الصادرات إلى تعويض تراجع السلع الصينية في السوق الأمريكية بنسبة عالية مع العلم أن هذا التراجع زاد على 11 بالمائة خلال النصف الأول من العام الجاري حسب مؤسسة التجارة الخارجية والاستثمار الألمانية "GTAI".
انتعاش الصين ينقذ صناعات ألمانية حيوية
في ألمانيا ورغم الحديث عن مشاكل في العلاقات والمفاوضات مع الصين بهدف تنظيم العلاقات التجارية والاستثمارية معها، تعود التجارة بين الطرفين إلى الازدهار مجدداً. ومن خلال المعطيات المتوفرة يمكن القول إن انتعاش الاقتصاد الصيني يبدو لصالح ألمانيا أكثر من أي دولة صناعية أخرى. ويذهب موقع "شبيغل" الألماني الواسع الانتشار إلى حد القول أن هذا الانتعاش "ينقذ المصدرين الألمان".
ومن الأدلة على ذلك مثلاً أن ما يزيد على 45 بالمائة من صادرات صناعة السيارات الألمانية التي تشكل قاطرة الاقتصاد الألماني، ذهبت إلى الصين في الربع الثاني من العام الجاري. ومع استمرار الحكومة الصينية بتقديم مكافآت لشراء سيارات جديدة يتوقع أن يبيع الألمان في الصين أكثر من 20 مليون سيارة في الصين هذه السنة مقابل 12 مليوناً فقط في أوروبا كما يرى فيرديناند دودنهوفر، مدير معهد بحوث السيارات في دوسلدورف. ويشكل هذا التطور أهمية كبيرة للاقتصاد الألماني الذي تُعد صناعة السيارات بمثابة قاطرة أساسية لعدد كبير من قطاعاته في الإنتاج وفرص العمل.
مزيد من الإغراق للأسواق العربية
وإذ يساعد الانتعاش الصيني على ازدهار صناعة السيارات الألمانية ومعها الاقتصاد الألماني، فإنه يترافق مع تعزيز مكانة السلع الصينية واكتساحها لأسواق العالم العربي. ومن المؤشرات على ذلك ارتفاع صادرات هذه السلع إلى معظم الأسواق العربية ومن أبرزها السوقين السعودي والعراقي. وقد بلغت نسبة الارتفاع هذه خلال النصف الأول من السنة الجارية نحو 12 بالمائة في السوق السعودية وأكثر من 11 بالمائة في السوق العراقية.
أما الصادرات العربية إلى الصين وهي في غالبيها نفطية فقد تراجعت لصالح صادرات النفط الأمريكية والروسية والإيرانية وغيرها. وإذا كان انتعاش صادرات الصين إلى الدول العربية يوفر للمستهلك العربي مختلف السلع بأسعار أقل بكثير من أسعار مثيلتها الغربية، فإنه لا يساعد على تعزيز مكانة الصناعات الوطنية الناشئة والحرف التقليدية بسبب عدم قدرتها على المنافسة مع نظيرتها الصينية التي تحظى على بدعم حكومي صيني سخي وأيدي عاملة رخيصة.
وهكذا فإن الصعود الصيني لن يساعد على نهضة اقتصاديات الدول العربية وحل مشاكل البطالة والفقر إذا لم يحصل تغييرات في بنية العلاقات القادمة على أساس إقامة مشاريع صناعات تحويلية مشتركة يتم توطينها في هذه الدول نفسها. ولا يغير من أهمية هذه التغييرات أن حصولها في ظل الاستقطاب الشديد الذي يشهده العالم العربي يبدو بعيد المنال. ويزيد من حدة هذا الاستقطاب توقيع اتفاقيات السلام الجديدة برعاية أمريكية بين إسرائيل من جهة وكل من الإمارات والبحرين من جهة أخرى.
ابراهيم محمد