تتعرّض لحملة مقاطعة واسعة .. تعرّف على صادرات فرنسا وأسواقها
٢٩ أكتوبر ٢٠٢٠انتشرت بكثافة دعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية؛ احتجاجًا على دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها مجلة شارلي إبدو للنبي محمد، وقيام سلطات بعض المناطق الفرنسية بنشر هذه الرسوم على مبان عمومية للتضامن مع المدرس القتيل صامويل باتي. الحملات خرجت من العالم الافتراضي إلى الواقع، وانضمت لها شخصيات مهمة كما فعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وبصرف النظر عن الأسلحة والخدمات، تعوّل باريس بقوة على صادرات صناعة الطيران والفضاء، والمواد الصيدلانية، ونسبة أقل على صادرات الاستهلاك اليومي كالنسيج والصناعات الغذائية، والصناعات الصغيرة (كالتجهيزات المنزلية)، وِفق أرقام الجمارك الفرنسية. لكن رغم التراجع، تشكل صناعة السيارات رقما أساسيا، فضلاً عن عقود تبرمها فرنسا من حين لآخر لتشييد مشاريع نقل ضخمة.
بيد أن فرنسا تملك أداة أكثر فعالية لها من الصادرات، هي الاستثمار المباشر في الخارج، إذ تعدّ فرنسا الأولى أوروبيا على هذا السلم، والسابعة عالميًا، في توجه تحاول معه سدّ المشاكل التي تواجهها في ميزانها التجاري، الذي تبين أرقامه وجود تراجع نسبي لنمو الصادرات الفرنسية إلى الخارج عام 2019.
ونقلاً عن أرقام لتجمع الشركات الأوروبية العاملة في الخارج، فإن فرنسا لديها أكثر من 45 ألف شركة أو فرع لشركة نشطة بالخارج (أرقام 2017)، برقم معاملات إجمالي يصل إلى 1540 مليار يورو، وبعدد عمالة يقارب 6.3 مليون عامل وعاملة.
وتوجد أغلب الشركات الفرنسية داخل الاتحاد الأوروبي بحوالي النصف، ثم تأتي أمريكا والصين والبرازيل في المراكز اللاحقة، وتنشط الشركات الفرنسية في مجالات متعددة منها المجال التجاري.
هل تتأثر بالمقاطعة؟
اتجهت حملة المقاطعة بشكل رئيسي إلى منتجات الاستهلاك اليومي، خاصة منها المواد الغذائية. ويُطرح سؤال حول قدرة المقاطعة على إحداث تأثير كبير على اقتصاد فرنسا، الذي لا يعتمد في التصدير بشكل رئيسي على هذه المنتجات، كما أن جزءًا كبيرًا منها يُصنّع محليا، في سياق الاستثمار المباشر، ما له أثر على تشغيل جزء من اليد العاملة المحلية وتقليل أرقام العطالة ببلدان الاستقبال.
وفي رأي رشيد أوراز، خبير اقتصادي بالمعهد المغربي لتحليل السياسات، فالأكيد أن الحملة ستكون لها تداعيات على اقتصاديات الدول المستقبلة لهذه الاستثمارات الفرنسية وكذلك على اليد العاملة، لكن كذلك ستخسر الشركات الفرنسية الكثير لأنها اختارت هذه البلدان بسبب اليد العاملة الرخيصة التي لم تجدها في فرنسا.
ويتابع أوراز أن المقاطعة قد لا يكون لها ذلك التأثير الاقتصادي الهائل، لكن في سوق شديد التنافسية، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالسلع الموجهة للاستهلاك اليومي والسيارات، فالخطر محتمل بالنسبة لفرنسا، نظرا لوجود بدائل محلية أو أجنبية لسلعها. وإذا طالت المقاطعة، فالأثر سيكون على المدى المتوسط والبعيد، خاصة مع وجود "وعي متأخر ضد الإرث الكولونيالي الفرنسي"، ومع التصعيد المقابل من السلطات الفرنسية، يتابع أوراز لـDW عربية.
الدول المغاربية.. السوق التقليدي
فرنسا هي ثاني مصدر للمغرب (بعد إسبانيا)، لكن المغرب هو أول مستقبل لتمويلات الوكالة الفرنسية للتنمية، كما أن فرنسا هي أول مستثمر أجنبي في البلد، خاصة في قطاعي صناعة السيارات والعقار، حسب موقع السفارة المغربية بباريس.
ويوجد في المغرب حوالي 900 فرع لشركات فرنسية، منها شركات قوية في مجالات الصناعات الغذائية والبنوك ومشتقات البترول. ومنح المغرب شركات فرنسية عقوداً ضخمة في مجال النقل، كمشروع الترامواي والقطار فائق السرعة. كما تنشط الصادرات الفرنسية في النسيج، والمواد الزراعية، والمواد الاستهلاكية خاصة منها تصدير القمح الفرنسي.
وعند الجارة الجزائر، فرنسا هي ثاني مصدر بعد الصين، رغم وجود تراجع ملحوظ مقارنة بعلاقات فرنسا مع المغرب. وتعدّ الجزائر أول سوق عبر العالم للقمح الفرنسي (القمح الروسي أضحى ينافس بقوة)، كما تستورد الجزائر الصناعات الصيدلانية بشكل كبير، وكذلك المنتجات الخاصة بتكرير البترول (تستورد فرنسا كذلك في المقابل النفط الجزائري)، ومنتجات السيارات والسكك الحديدية.
وتأتي الجزائر أولاً إفريقيا بالنسبة للشركات الفرنسية النشطة في التصدير. كما تملك تونس علاقات قوية مع فرنسا، التي تشكل المُصدّر الأول لتونس بعد إيطاليا، غير أن فرنسا هي أول من يستقبل الصادرات التونسية. وحسب أرقام تونسية، ففرنسا هي المستثمر الأجنبي الأول في البلد بحوالي 35%.
أسواق جديدة بالشرق الأوسط
تراجع نمو الصادرات الفرنسية نحو السعودية ب -13.4% في عام 2019، بسبب انخفاض حاد في تصدير طائرات الإيرباص الفرنسية، لكن لفرنسا صادرات أخرى قوية مثل المنتجات المعلوماتية والمواد الزراعية والصناعات الغذائية والصيدلانية. وتأتي فرنسا بالمركز الثامن في قائمة موّردي السعودية بحوالي 3.8%.
بينما تعدّ الإمارات خامس زبون لفرنسا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وخلافا للسعودية، سجلت وارداتها من المنتجات الفرنسية زيادة بـ3%. لكن الارتفاع الأكبر كان في قطر التي زادت وارداتها من السلع والخدمات الفرنسية بحوالي 27%، خاصة مع عقود مشروع مترو الدوحة.
لكن المفارقة أنه رغم التوتر بين ماكرون وأردوغان، تعدّ تركيا الزبون الخامس خارج الاتحاد الأوروبي وسويسرا بالنسبة لفرنسا، كما تأتي أنقرة في المركز 12 لموّردي فرنسا. ويلاحظ أن هناك تراجعًا كبيرًا لصادرات الطيران والسيارات الفرنسية نحو تركيا، مقابل ارتفاع لصادرات المواد الصيدلانية ومنتجات الحديد والصلب.
مما سبق يتبين أن العقود مع الدول الإسلامية من أجل إنجازالمشاريع الضخمة هي أكبر أرباح فرنسا. يشير رشيد أوراز إلى أن الأنظمة الحاكمة انضمت لموجة التنديد لأسباب كثيرة منها عدم إفساح المجال للتنظيمات الإسلامية لاستغلال الوقت، لكن هذه الأنظمة، باستثناء تركيا، لن تذهب أبعد، ولن تساهم في المقاطعة لأنها تدرك مدى حاجتها لفرنسا في قطاعات استراتيجية.
وفي هذا السياق، هناك عامل آخر يلعب لصالح فرنسا، هو كونها بائعا قويا للأسلحة للدول العربية، فقد قفزت عام 2018 إلى المركز الثالث لأكبر بائع للأسلحة في العالم بعد أمريكا وروسيا. وكانت قطر زبونها الأول ذلك العام بـ2.3 مليار يورو، وجاءت السعودية ثالثة بحوالي مليار.
من هم زبائن فرنسا الرئيسيون؟
استقبلت بلدان الاتحاد الأوروبي (دون احتساب المملكة المتحدة) 52% من الصادرات الفرنسية عام 2019، غير أن حصة فرنسا داخل الاتحاد تراجعت نسبيا، بسبب المنافسة الشرسة مع هولندا وألمانيا. كما تراجعت حصة فرنسا من السوق العالمي بحوالي ناقص 2.8% خلال عقدين من الزمن بسبب صعود قوى جديدة كالصين، وكذلك بسبب ضعف تنافسية السلع الفرنسية.
وفي ترتيب الدول المستوردة للمنتجات الفرنسية، هناك ألمانيا أولا، تليها أمريكا، ثم إيطاليا، ثم إسبانيا، ثم بلجيكا، وهذه الدول لوحدها استقبلت 44.6% من السلع الفرنسية. ومن أكبر التراجعات التي سجلتها الخزينة الفرنسية، ما وقع في إفريقيا، إذ لم تنل فرنسا سوى حصة 5.6% من مجموع ما تستورده إفريقيا من السلع.
لكن في الوقت ذاته لا يعتقد رشيد أوراز أن تدعم دول الاتحاد الأوروبي فرنسا إلى أبعد مدى في هذا الظرف الحساس، بل ستحاول الضغط عليها لوقف كل ما من شأنه التصعيد مع العالم الإسلامي. كما أن هذه الدول لديها مصالحها الاقتصادية الخاصة ولن تحاول المغامرة بها، خاصة أن لها طرقا مختلفة تمامًا عن فرنسا في التعامل مع العالم الإسلامي. بل إن بعضها، يتابع أوراز، قد يستغل أيّ فراغ يخلفه خروج فرنسا لأجل إيجاد فرص اقتصادية، كبريطانيا.
*** (اعتمد المقال في جلّ الأرقام على إحصائيات رسمية فرنسية من مصادر مفتوحة كمواقع الخزينة، ووزارة الخارجية، ووزارة الاقتصاد، وأرقام الجمارك).
الكاتب: إسماعيل عزام