بوتفليقة.. سياسي "ماكر" فكك هدية ملغومة للحفاظ على الكرسي
١٢ مارس ٢٠١٩عندما غادر بوتفليقة المشهد السياسي بداية الثمانينيات من القرن الماضي، لم يكن ربما يدور بخلده أنه سيعود يوماً وسيكون الرئيس الذي قضى لحد الآن 20 سنة، مرّشحة للارتفاع، على كرسي زعامة الجزائر، فقد خرج في ذلك الوقت من الباب الضيق، يجرّ خلفه تهماً ثقيلة باستغلال المال العام، ورفضاً من بنية جديدة في الدولة الجزائرية، قبل أن يتلّقى "هدية ملغومة" نهاية التسعينيات، استطاع رويداً رويداً نزع الفتيل القادر على تفجيرها.
ابن مدينة وجدة المغربية من أبوين جزائريين، كان مساره التعليمي متوسطاً، دون أن يؤثر ذلك على مساره السياسي الذي بدأه بوزارة الشبيبة والسياحة ثم مسؤولية وزارة الخارجية وعمره لا يتعدى 26 سنة. هو واحد من "جماعة وجدة" التي كان لها نفوذ لعدة سنوات في جزائر ما بعد الاستقلال، وأحد الأذرع التي بنت سياسة هواري بومدين، إذ استمر إلى جانب هذا الأخير إلى غاية وفاته واستلام الشاذلي بن جديد دفة الحكم عام 1979.
الوزير "الماكر"
يَدين بوتفليقة في تشكّل ملامح قدراته التفاوضية إلى آخر سنوات الاستعمار الفرنسي للجزائر، إذ كان "عبد القادر المالي"، وهو اسمه الحركي، نشيطاً ضمن جيش التحرير الوطني، حيث اضطلع بمهام قتالية، وأخرى سياسية، خاصة دخوله السري إلى فرنسا، وتواصله مع قيادات جزائرية معتقلة هناك، كما تتحدث سيرته الذاتية الرسمية. كان بوتفليقة يملك "ذكاءً حاداً" حسب وثائق الاستخبارات الفرنسية التي نشرها موقع "لوبس" ونقلتها عنه عدة مواقع، لذلك طبق مقولة " لا لغة في السياسة إلّا لغة المصالح"، مع بن بلة أولاً، فبعد أن تواصل معه في فرنسا، قبل الاستقلال، لتوحيد الجبهة الجزائرية، ساهم في انقلاب بومدين عليه وإرساله إلى السجن لعدة سنوات.
طبّق بوتفليقة واقعية سياسية كبيرة في منصب وزارة الخارجية، فإن كان مساهماً، حسب موقع المرادية، في جعل بلده ناطقاً باسم العالم الثالث ومدافعاً عن حركات التحرر، فهو كذلك في أعين باريس فاعل رئيسي في التعاون بين فرنسا والجزائر، وفق الوثائق الفرنسية، رغم أن العلاقة التي طبعت الدولتين بعد الاستقلال كان متوترة.، كما استطاع إبعاد زوجة بومدين عن طريقه، بعد أن هددها بتشويه سمعتها. إنه "مفاوض ماكر ومناور متيم بالسلطة"، كما يقول المصدر السابق.
"مكر" بوتفليقة ظهر بعد 20 عاماً على وفاة بومدين، فبعد عودته إلى الجزائر من منفاه الاختياري، استغل حاجة الدولة الجزائرية إلى شخصية مدنية أقلّ حماسة لمحاربة الفساد من محمد بوضياف، الرئيس المغتال، بعد إخفاق اليامين زروال وقبله علي كافي، في إنهاء حمام الدم، ليصعد بوتفليقة إلى رئاسة الدولة عام 1999، قبل أن يعمد في السنوات اللاحقة إلى إجراء تعديلات كبيرة في بنية الدولة حتى لا يقال أو يُدفع للاستقالة.
من هذه التعديلات، خلقه لشبكة من رجال الأعمال والسياسة المرتبطين به، خاصة المنحدرين من غرب البلاد، وفسحه المجال أمام شقيقه السعيد والناصر لمساعدته في إدارة البلاد، وعودته بقوة إلى حزب جبهة التحرير الوطني، وتعيينه للجنرال قايد صالح رئيساً لأركان الجيش، حيث يعدّ هذا الأخير من أكبر مناصريه حالياً، فضلاً عن إحالة عدة جنرالات على التقاعد ومحاكمة آخرين، وهي خطوة حدثت في السنوات الأخيرة، ما يبعث شكوكاً أنها من تنفيذ معسكر بوتفليقة وليس بالضرورة الرئيس المُصاب بجلطة دماغية.
سلبيات تمحو الإيجابيات!
قد يكون علي كافي، الرئيس الجزائري الأسبق، من أشد الحانقين على "انتخاب" بوتفليقة رئيساً للجزائر، فهناك مقطع متداول لكافي يكيل فيه اتهامات خطيرة للذمة المالية لبوتفليقة. القضية تعود إلى نهاية عهد هذا الأخير في وزارة الخارجية، ففي الوقت الذي تقول فيه الرئاسة الجزائرية إن بوتفليقة كان ضحية لـ"محو آثار بومدين"، تذكر مصادر أخرى، كجريدة "لوماتان دالجيري"، في تقرير عام 2010، أن الشاذلي بن جديد، وعلى العكس من ذلك، أنقذ بوتفليقة من السجن، ومكّنه من استرجاع جواز سفره، فضلاً عن رفع الحجز عن ممتلكاته. سبب القضية يعود إلى قرار لمحكمة الحسابات الجزائرية، عام 1983، يتحدث عن أن بوتفليقة حوّل مبالغ تخصّ وزارة الخارجية إلى حسابين في سويسرا، وبات مديناً للدولة بأكثر من ستة مليارات سنتيم جزائري.
يُحاول المتعاطفون مع بوتفليقة إهمال هذه المرحلة المظلمة من حياته، والإشارة إلى تاريخه في مقاومة الاستعمار، وإلى "منجزاته" في الرئاسة، خاصة وأن بداية عهده اقترنت بنهاية "العشرية السوداء"، وبإصداره أولاً لقانون الوئام المدني، ثم ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وهما وثيقتان، وإن ساهمتا في طيّ المرحلة بعفو جزئي على فئات من المسلحين الإسلاميين وتعويض أسر الضحايا، لكنهما كذلك، وحسب حقوقيين، طمستا الحقيقة وجنبتا المتسببين في المجازر الملاحقة القضائية. تنازل يراه المتعاطفون ضرورياً، إذ كان إنهاء الرعب مطلباً حاسماً لملايين الجزائريين، حتى مع شروط "مجحفة".
يجد المتعاطفون مبرّرات أخرى، ومن ذلك، حسب قصر المرادية، أن الجزائر، في عهد بوتفليقة، حققت نمواً اقتصادياً كبيراً. لكن هذا النمو، لم يدم طويلاً، فمثلما استفادت الجزائر، الدولة النفطية، من ارتفاع أسعار البترول، عانت بشدة من تدهور أسعاره، والنتيجة أنها اتجهت إلى الاقتراض من البنك الإفريقي للتنمية عام 2017. أما شعارات بوتفليقة بمحاربة الفساد، فهي تواجه بتقارير جزائرية رسمية، وأخرى دولية، تؤكد أن الظاهرة استفحلت في البلاد، من مظاهرها تفجير فضائح مالية ضخمة كلّفت مليارات الدولارات.
وكما يبدو أن بوتفليقة يصرّ على محو خطواته الإيجابية، فبعد تعديل الدستور عام 2016 بتنصيصه على دسترة اللغة الأمازيغية وفتحه مجالاً أكبر للحقوق والحريات والتعددية السياسية وحصره مدة بقاء الرئيس في ولايتين انتخابيتين، فإن بوتفليقة عاد عام 2019 ليعلن عن نفسه مرشحاً لولاية خامسة، رغم اعتلال صحته وعدم قدرته مخاطبه شعبه، قبل أن يتراجع بسبب تفاقم ضغط الشارع، ويعلن عن تأجيل الانتخابات وسحب ترشحه.
رغبة بوتفليقة، أو تحديداً محيطه، في عهدة خامسة، ذكّرت الكثيرين بما فعله عام 2008 عندما دفع نحو تعديل الدستور لأجل الاستمرار رئيساً للبلاد، في وقت كان يمكن أن يصحح أخطاء مرحلة الشباب، وبالتالي يرحل من الباب الكبير، جاعلاً الجزائريين يتذكرون رئيساً ساهم في وقف إراقة الدم، أكثر من تذكرهم صورة رئيس دائم التوجه للعلاج في الخارج.
إسماعيل عزام