الفساد واقتصاد الريع وجهان لعملة واحدة
١٤ يونيو ٢٠١٠تحتل دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا مراكز متقدمة من حيث درجة فسادها الإداري والمالي وفقا لأكثر تقارير مراقبة الفساد مصداقية، أي تقرير الشفافية الذي يصدر سنويا عن منظمة الشفافية الدولية (Transparency International). ويكاد يكون موقع دول المنطقة ثابتا في قائمة الفساد التي تصدرها المنظمة الدولية، إذ أنها وعلى مر سنوات لم تتمكن من تحسين موقعها فيها بشكل ملموس.
ومن أهم أسباب استشراء الفساد في منطقتنا، هو تحوله من مجرد خلل إداري ناتج عن سوء الإدارة ونقص الرقابة وندرة المعلومات الي نوع من الثقافة التي تحظى بقبول اجتماعي و سياسي متزايد، الأمر الذي جعل الفساد شأنا عاما، يتم الحديث عنه وكأنه ليس بمشكلة، ولا هو بمعرقل للتنمية أو بمؤثر في حياة الأفراد من البسطاء و محدودي الدخل بالدرجة الأولى.
ويعود انتشار هذه الثقافة بالدرجة الأولى إلى أن أغلب دول المنطقة، وخاصة النفطية منها تعتمد اقتصادا ريعيا ينحصر دور النظام السياسي فيه (وليس الدولة بالمفهوم المؤسساتي) على جمع عوائد النفط وإعادة توزيعها ولو بشكل جزئي على شكل مرتبات وهبات وعطايا للمواطنين. وفي ظل هذا النسق السياسي والاجتماعي يكون المواطن شاكرا لتلقيه تلك المنَة من النظام بشكل يبدو فيه كل من الطرفين وكأنه في موقع المتواطئ إزاء الآخر فيما يتعلق بالموقف من نبذ مظاهر الفساد.
ومن تبعات هذه الترتيب إلغاء أحد أهم مقومات وجود الدولة، أي الضرائب التي يدفعها المواطن بالدرجة الأولى، وفي نفس الوقت يكون حريصا على حسن إنفاقها. وفي هذه الحالة يفقد مفهوم الضرائب في الحقيقة أي معنى واقعي له، لأن صاحب المال (النظام السياسي أو الدولة) يجبي الضرائب عن طريق مصادر الثروة العامة، وهذا ما يفسر غياب أي نوع من الضرائب حتى وقت قريب في كثير من الدول النفطية وخاصة الخليجية حيث النفط هو المصدر الرئيسي للدخل الوطني.
ورغم صعوبة المشكلة الا أن محاربتها ليست مستحيلة ويأتي في مقدمة أدوات مكافحة الفساد دورالتعليم في نشر ثقافة مفادها أن المال العام كشاطئ البحر والرصيف العام، والطريق ما هو الا ملكية للجميع تجب المحافظة عليها وحمايتها بل والدفاع عنها لأن الفشل في ذلك هو ضرر للجميع.علاوة على ذلك يجب أن تكون الجهات الرقابية المعنية بمحاربة الفساد ذات استقلالية عالية ولا تخضع لسلطان الحكومات، وإلا أصبح وجودها غير مبرر ودورها تجميليا لإعطاء صورة مقبولة، توحي بأن أدوات الرقابة القانونية للفساد وكأنها فاعلة وتؤدي دورها المنوط بها.
وإضافة الي التعليم يأتي دور مشاركة الأفراد في النشاط الاقتصادي (حتى دون المشاركة السياسية التي تكاد تكون من المحرمات في منطقتنا)، وبالرغم من النقيصة الظاهرة في ذلك فإن المشاركة الإقتصادية تجعل الأفراد أكثر قدرة على معرفة مواطن الخلل وبالتالي مكامن الفساد، مما يمكنهم من الوعي بها وبالتالي القدرة على محاربتها أو التصدي لها أو على الأقل كشفها أمام الرأي العام بشكل متزايد.
ويظل بالطبع تطبيق القانون هو أقصى درجات مكافحة الفساد، غير أن الشكل القانوني المراد تطبيقه بحاجة الي أن يكون ملائما كي يؤدي الي النتائج المرجوة، والا فإن وجود القانون وتطبيقه سيكون جهدا بلا طائل، ولهذا السبب بالذات تفشل جهود مكافحة الفساد في أغلب الدول العربية لأن القانون مختل أو أن تطبيقه يعاني من علل وفساد هو نفسه!
ففي ليبيا مثلا توجد قوانين صارمة ومتطورة الي حد ما للحد من الفساد والقضاء عليه وتوجد أمانة (وزارة ) خاصة بمتابعة حالات الفساد وكشفها و محاسبة الجناة، غير أن ما يحدث على أرض الواقع ليس النتيجة الطبيعية لتطبيق القانون وإنما شيء مشابه له!
وفي كل عام تنشر أمانة (وزارة) الرقابة المالية تقاريرها في أول جلسات مؤتمر الشعب العام (البرلمان) الا أن أغلب تلك التقارير، ومع توفرها على بعض المعلومات الدقيقة، تهتم كثيرا بالشكل و الأسلوب النقدي دونما إجراءات تنفيذية حقيقة ولم يسبق أن أُدين أي مسؤول عال المستوى أو إحالته الي المحكمة منذ زمن طويل، الأمر الذي يجعل من وجود وزارة للرقابة بلا معنى حقيقي.
ولعل جزءا من هذا الخلل يعود في أصله الي أن العلاقة بين الجهات الرقابية وتلك الخاضعة للمراقبة، كونها علاقة تبعية، بمعنى أن الرقيب هو في الحقيقة موظف لدى الحكومة والمؤسسات التنفيذية المراد مراقبتها ومحاسبتها. ويكاد هذا الحال يكون سمة كافة الأجهزة الرقابية في كل دول المنطقة، وفي محاولة منها لتغيير هذه العلاقة اتجهت ليبيا في الفترة الأخيرة لنقل تبعية الجهات الرقابية الي مؤتمر الشعب العام (البرلمان) لتستقل نهائيا عن الحكومة، لأن الإتجاه الصحيح هو أن تكون تلك الهيئات الرقابية مستقلة تماما ولا تخضع الا للقانون ومعايير الأداء.
الكاتب: مصطفى فيتوري، رئيس قسم إدارة الأعمال بالأكاديمية الليبية للدراسات العليا / طرابلس.
مراجعة: منصف السليمي