الغبار الذري القاتل في العراق...تشوهات خَلقية وصمت دولي
٤ سبتمبر ٢٠١٣لا تزال الحال على ما هي عليه مثلما كانت قبل عشرة أعوام، إذْ تجتاح العواصف الرملية الشديدة المناطق المتصحِّرة في جنوب العراق على طول شط العرب المكوَّن من التقاء نهري دجلة والفرات، وتنحني سعف النخيل على الأرض وتبدو مهدَّدة بالانهيار وتتسلل حبيبات الغبار الصغيرة إلى داخل الشقوق الصغيرة في جدران المنازل.
حين غزت القوَّات الأمريكية والبريطانية العراق في العشرين من شهر آذار/ مارس 2003 واجتاحت بغداد في التاسع من شهر نيسان/ أبريل من العام نفسه كان الأهالي في بلاد الرافدين يحمِّلون دبابات قوَّات التحالف وآلياتها مسؤولية هذه العواصف. وكان يقال في تلك الأيَّام إنَّ المركبات العسكرية تثير عواصف الرمال. ولكن في يومنا هذا لم يُقرَّر بعد على من تقع مسؤولية هذه العواصف الرملية.
وهنا على بعد أربعين كيلومترًا جنوب مدينة الناصرية على طريق البصرة تتَّضح معالم الحروب الكثيرة، الحرب ضد إيران والحرب على الكويت وكذلك الحرب الأمريكية على العراق، التي وقعت في عهد صدام حسين وحتَّمَت على مدينة البصرة معاناة أكثر من أية مدينة أخرى في العراق. وعلى يمين الطريق الرئيسي الممتد من بغداد ما تزال تُشاهَد بوضوع بقايا معركة كبيرة؛ حيث تنتشر هنا وهناك أعداد كبيرة من الدبابات المحترقة وعربات الهامفي ومركبات المدافع المتصدِّئة التي غطتها الرياح الصحراوية الجافة بطبقة رقيقة من الرمال.
ومعظم هذه الآليات من مخلَّفات الحرب التي قادت تحالفها الولايات المتَّحدة الأمريكية في عام 1991 بغية إخراج الجيش العراقي من الكويت. وهنا في جنوب العراق واجه الأمريكيون والبريطانيون في ربيع عام 2003 مقاومة شديدة للغاية، بينما استسلم الجيش العراقي في بقية أجزاء البلاد تقريبًا من دون قتال. ومع ذلك فإنَّ مدينة البصرة لم تُبتَلَ بالإرهاب في الأعوام الأخيرة بقدر ابتلاء المدن العراقية الأخرى بها، مثل بغداد والموصل وكركوك.
دراسات تثبت التلوّث باليورانيوم
ويقول طبيب من مدينة البصرة معلقًا على حطام الآليات المنتشرة على الأرض الصحراوية: "هنا يمتد أيضًا خط التلوّث باليورانيوم. من هنا وحتى الخليج لدينا منطقة فيها أعلى مستويات الإشعاع". وينصحنا الطبيب بالبقاء بعيدًا عن الآليات والمركبات العسكرية ويقول إنَّها تنقل الإشعاع إلى البشر. ولكنّ الكثيرين لم يكونوا على علم بذلك ولم يعلموا إلاَّ بعد فوات الأوان. ثم يضيف قائلاً: في العامين الماضيين فقط بدأت المؤسسات المستقلة بنشر دراسات تبيِّن وجود مستويات عالية من التلوّث.
فقد نشرت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 مجلة "التلوث البيئي وعلم السموم" في مدينة هايدلبيرغ الألمانية دراسة كشفت عن زيادة بمقدار سبعة أضعاف في عدد التشوّهات الخلقية في البصرة بين عامي 1994 و2003. إذ تظهر التشوّهات الخَلْقية لدى ثلاثة وعشرين مولودًا حديثًا من بين كلِّ ألف ولادة حيَّة. وتذكر هذه الدراسة أنَّه لم يتم قبل ذلك تسجيل مثل هذا المعدَّل المرتفع من عيوب الأنبوب العصبي (السنسنة المشقوقة: "انقسام العمود الفقري") لدى الأطفال الرضّع مثلما الحال في البصرة، كما أنَّ هذا العدد يرتفع باستمرار. وبالإضافة إلى ذلك تعدّ نسبة حالات استسقاء الرأس (زيادة السائل المخي الشوكي حول الدماغ) لدى الأطفال حديثي الولادة في جنوب العراق أعلى بستة أضعاف مما هي عليه في الولايات المتَّحدة الأمريكية.
يُعتَبَر موضوع اليورانيوم المنضَّب والذخائر المزوَّدة باليورانيوم في العراق موضوعًا حساسًا جدًا لا يرغب كلّ طبيب في البصرة في الحديث حوله أو حتى ذكر اسمه ضمن هذا السياق. ويدور النقاش بصعوبة كبيرة حول هذا الموضوع وذلك لأنَّ التلوّث الإشعاعي من خلال مخلفات ذخيرة اليورانيوم الخارقة للدروع كان موضوع الدعاية الأكثر شعبية لدى نظام صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية التي وقعت في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب. وحتى يومنا هذا لم يتم في الولايات المتَّحدة الأمريكية نشر أي موضوع في صحيفة كبرى حول الأمراض الوراثية التي ظهرت في الفلوجة وكذلك لا يتم الكشف عن التلوّث في البصرة.
ولكن مع ذلك فقد انتقدت صحيفة "الغارديان" البريطانية صمت الغرب ووصفته بأنَّه فشل أخلاقي ونقلت رأي الخبير الكيميائي كريس باسبي الذي يقول إنَّ في البصرة "النسبة الأعلى من التشوّهات الخلقية التي تم رصدها حتى الآن لدى أية مجموعة سكانية على الإطلاق". وقد شارك باسبي أيضًا في تأليف دراستين حول هذا الموضوع.
وفي شهر كانون الأوَّل/ ديسمبر نشرت مجلة "دير شبيغل" الأخبارية الألمانية مقالاً عرضت فيه هذه الدراسة التي تعتبر حتى الآن أكثر دارسة شاملة حول هذا الموضوع وقد أجرتها الجمعية الملكية في لندن عام 2002. بيد أنَّ هذه الدراسة لم تركِّز إلاَّ على المخاطر التي من المحتمل أن يتعرّض لها الجنود. ولكن هذه الدراسة تفيد بأنَّ خطر التعرّض لأضرار إشعاعية "منخفض جدًا" مثلما الحال مع خطر الإصابة بالفشل الكلوي الدائم بسبب غبار اليورانيوم.
رصاص وزئبق وغيوم دخانية مسرطنة
ما من شكّ الآن في أنَّ الأميركيين والبريطانيين قد استخدموا ذخائر اليورانيوم المنضَّب في العراق. وقذائف اليورانيوم المنضَّب هي تلك القذائف التي تتم صناعة رؤوسها أو نواتها من اليورانيوم "المنضَّب" ضعيف الإشعاع. تمنح هذه النواة وبسبب ثقلها النوعي القذيفة قدرة عالية جدًا على التوازن واختراق دروع الدبابات. وعند انفجار قذائف اليورانيوم يتكوّن غبار اليورانيوم.
وعلى سبيل المثال حين يلعب الأطفال بالقرب من الدبابات المدمَّرة فهم يتعرَّضون لاحتمال تناول هذا الغبار عن طريق الجلد أو الفم أو الجهاز التنفسي. وفي عام 2002 أثبتت دراسة صدرت عن جامعة بريمن وجود تغيّرات كروموسومية لدى قدامى المحاربين الذين شاركوا في حرب الخليج وكانوا على تماس مع ذخائر اليورانيوم.
وفي محافظة البصرة تم استخدام ذخائر اليورانيوم مرتين؛ المرة الأولى في حرب الخليج الثانية في عام 1991 خارج المدينة وكذلك في عام 2003 ولكن هذه المرة داخل المدينة وذلك عندما كانت القوَّات البريطانية تتقدَّم من جهة الغرب نحو المطار. وفي غرب البصرة تقع أيضًا المنطقة التي تضم أعلى نسبة إصابة بسرطان الدم لدى الأطفال الصغار.
قد يكون اليورانيوم متهمًا فقط بالمسؤولية عن التسبب بالإصابة بمرض السرطان والتشوّهات الخَلْقية. ولكن توجد في العراق مواد أخرى ملوِّثة مثل المعادن الثقيلة السامة ومنها الرصاص والزئبق، وهذه المعادن يتم استخدامها أيضًا في إنتاج الذخائر والقنابل. ويرد كذلك في الدراسة الصادرة في مدينة هايدلبيرغ الألمانية: "ربَّما يكون قصف مدينتي البصرة والفلوجة قد أدَّى إلى زيادة في إصابات الأهالي هناك بسبب المعادن ومن المحتمل أنْ تكمُن نتيجة ذلك في الارتفاع الحالي في التشوّهات الخلقية".
وفي عام 2003 تم إشعال حقل الرميلة النفطي في البصرة ونتيجة لذلك كانت المدينة مغطاة بسحابة دخانية مليئة بالجزيئيات المسببة لمرض السرطان. زِدْ على ذلك أنَّ أهالي هذه المدينة، التي تعتبر ثالث أكبر مدينة في العراق ويبلغ عدد سكَّانها أكثر من مليوني نسمة، قد تعرَّضوا لأضرار بيئية طويلة الأجل، مثل تلوّث التربة والمياه وزيادة مستمرة في تلوث الهواء.
أين تذهب إيرادات بيع النفط؟
تعتبر البصرة في الواقع أغنى مدينة في العراق، ولذلك فمن الممكن لها الحصول منذ فترة طويلة على مياه نظيفة وعلى الكهرباء من دون انقطاع طيلة الأربع والعشرين ساعة بالإضافة إلى الطرق الجيّدة ونظام يسير بنجاح لجمع القمامة والنفايات؛ ولكن مع ذلك لا تتمتَّع البصرة بأي شيء من هذه الخدمات. كما أنَّ كلَّ ما تم بناؤه هنا في العشرة أعوام الأخيرة هو مجرَّد جسرين ومستشفى جديد وحرم جامعي آخر. ومنذ عدة أعوام تجري أعمال بناء مدينة رياضية ولكن من دون تحديد تاريخ إنهاء هذه المدينة الرياضة. وعلاوة على ذلك لقد تمت فقط إعادة بناء فندق الشيراتون الذي أصيب في البداية بأضرار جراء قصفه ومن ثم تمَّ نهبه وأخيرًا تم إحراقه.
وهنا في البصر توجد في كلِّ مكان بجوار الساتر الخرساني على الكورنيش عند شط العرب جبال من القمامة كما أنَّ مياه الصرف الصحي تجري مُشَكِّلةً بحيرات وتنتشر في الشوارع الجانبية حفر كبيرة. وإذا سِرنا في شارع الوطن الذي كان يعتبر في السابق شارعًا للترفيه في مدينة البصرة فسنلاحظ صورة أسوأ بكثير، حيث نجد مبانيَ كانت توجد فيها في السابق دور السينما ونوادٍ ليلية وكازينوهات مهجورة ومتداعية. ولا تبدو في هذا الشارع محلات الوجبات السريعة وشطائر الشاورما الرخيصة المشجِّعة على الأكل والفاتحة للشهية، وبالإضافة إلى ذلك يبدو الإهمال على الرجال الذين يتسكَّعون هناك ومعظمهم من الشباب.
ولذلك يتساءل المرء باستمرار أين تذهب في الواقع الأموال التي تتلقاها البصرة يوميًا. إذ تحصل هذه المدينة على دولار عن كلِّ برميل نفط يتم إنتاجه. وحاليًا يصل إنتاج العراق النفطي ثلاثة ملايين برميل نفط يوميًا - وهذا مستوى قياسي لم يبلغه العراق في إنتاجه من النفط منذ ثلاثين عامًا مثلما الحال في يومنا هذا. ويشكِّل إنتاج البصرة الذي يبلغ 2,25 مليون برميل يوميًا نصيب الأسد بينما يتمّ استخراج الكمية الباقية من آبار النفط في كركوك شمال العراق.
وفي مدينة البصرة يقول الأهالي من أجل تفسير الأوضاع المزرية التي تعاني منها مدينتهم إنَّ صدام حسين قد أهمل هذه المدينة الجنوبية في الماضي: "واليوم يَحُول الفساد دون تقدّم البصرة"، كما يخبرنا أحد الصيادلة في شارع الوطن. ويؤكِّد كلامه هذا التقرير الذي نشرته صحيفة "الزمان" العراقية وأثار في البرلمان تصويتًا باء بالفشل وكان الغرض منه حجب الثقة عن وزير الشباب والرياضة جاسم جعفر. فقد تم اتِّهام هذا الوزير بالفساد فيما يخص بناء "مدينة البصرة الرياضية". وعن ذلك يقول الصيدلي بلهجة واثقة: "هم يحمون بعضهم بعضًا".
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنظرة 2013