الصحافة الصفراء .. سلطة رقابية أم آلة للدعاية الكاذبة؟
٩ يناير ٢٠١٢أصبحت صحيفة بيلد (Bildzeitung) في ألمانيا مرادفاً للصحافة الصفراء. وتتباين الآراء حول هذه الصحيفة ودورها. فببنما يراها البعض آلة لنشر الدعايات والشائعات المغرضة، أو حتى لزرع الشر كما وصفها الصحافي والكاتب غونتر فالراف في سبعينات القرن الماضي. يقدر آخرون تميز اسلوبها الصحفي ودورها كسلطة رقابية مهمة، لا يمكن لمجتمع ديمقراطي التنازل عنها. أما المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر فقال بأنه لا يحتاج إلى أكثر من صحيفة بيلد الصادرة يوم الأحد ومشاهدة التلفاز، حتى يستطيع مباشرة أمور الحكم. أما المثقف اليساري هانس ماجنوس انتسينسبيرغر فوصفها ساخراً بأنهاعمل فني متكامل.
صحيفة الشعب
وتطبع الصحيفة كل يوم أربعة مليون نسخة، وهي بذلك أكثر الصحف اليومية مبيعاً في ألمانيا. وتصل عدد نسخ الصحيفة إلى ستة ملايين في بعض الأحيان. ويقول نوربرت بولتس، الخبير في شئون الإعلام إن: "سحر صحيفة بيلد يكمن في قدرتها على تناول المواضيع، بطريقة يفهمها المتعلمون وغير المتعلمين". ويضيف: "يرى الكثير من المحررين في دار نشر شبرينغر أنفسهم كصحافيين مبدعين، فهم يعرفون جيداً كيف يمكن تناول المواضيع بطريقة تجذب الجميع".
وتتميز الصحيفة بعناوينها الرئيسية الجذابة، التي تعتمد على التلاعب بالألفاظ واستعمال الاستعارات، فقد اختارت الصحيفة عنوان " نحن البابا"، عندما تولي الأسقف الألماني بينديكت السادس عشر منصب بابا الفاتيكان. أما فوز انغيلا ميركل بالانتخابات فتوجته الصحيفة بعنوان "المولود بنت".
وتعتمد الصحيفة في معالجتها للقضايا على الاستعانة بالكثير من الصور وشخصيات المشاهير أو صور الضحايا. ويرى نوربرت بولتس الخبير في شئون الإعلام أن الجريدة نجحت بهذا الأسلوب في تلبية معايير صحافة الإثارة، التي تخاطب الجمهور مباشرة: "إنها تُكتب من الشعب للشعب بدون أي تعقيد أو استخدام مصطلحات أو نظريات لشرح قضايا العالم. فمثل هذه الأمور تميز عمليات التواصل المعقدة". لكن هذه الطريقة المبسطة، التي تعتمد على الإثارة هي أيضاً أحد أهم أسباب النقد، الذي تتعرض لها الجريدة.
ضد المعارضة
ألف غونتر فالراف كتاباً مهماً عن صحيفة بيلد، حقق نسبة مبيعات قياسية. ويقول الصحافي والكاتب المعروف بإنتقاداته اللاذعة للصحيفة إن بيلد تدمر البشر بتناولها لحياتهم الخاصة دون التنبه لتبعات هذا الأمر عليهم : "لدي رسائل من السبعينات، كتبها أناس، قبل أن يقدموا على الانتحار، بعدما تم تدمير سمعتهم". وينبه فالراف إلى خطورة الجري وراء الإثارة دون مراعاة تأثير ذلك على ضحايا القصص المنشورة قائلاً: "يجب أن نفكر بالأشخاص، ممن لا يستطيعون الاتصال بالهاتف أو توكيل محامين، تخشاهم صحيفة بيلد".
واعتبرت حركات المعارضة غير البرلمانية في الستينات والسبعينات مجلة بيلد أكبر عدو لها. واتهمت الحركة الطلابية دار النشر شبيرنغر (Springer)، التي تصدر صحف "فيلت WELT"و "بيلد Bildzeitung"و "برلينر مورغن Berliner Morgenpost"و "هامبورغر آبندبلات Hamburger Abendblatt، بالانحياز. كما نعتوا المحررين في دار النشر بالفاشيين الجدد.
ويقول الصحافي والكاتب غونتر فالراف "كان المصورون الصحافيون في صحيفة بيلد يعملون مثل رامبو، يقتحمون منازل الناس. كانوا يهددون أهالي القتلى من الأطفال، ضحايا جرائم الاعتداء الجنسي، بأنهم سيستخدمون صوراً من المشرحة، في حال لم توفر الأسرة صور الضحايا". ويضيف: "أما اليوم فهناك صحفيون في الجريدة يرفضون القيام بمثل هذه الأعمال، لكنهم لا يجلسون للأسف في مواقع القرار".
تُتهم الصحيفة أيضاً بالتعاون مع رجال السياسة، فكثيراً ما يزود السياسيون الصحيفة بالقصص والصور في مقابل نشر قصص إيجابية عنهم، لكن شهر العسل قد لا يدوم طويلاً. ويقول فالراف "صحيفة بيلد تصنع السياسة وتتابعها وتؤثر عليها". ويضيف "أحياناً يتوج التعاون بالنجاح وأحياناً لا، فصعود وسقوط تسو غوتينبيرغ مثال على ذلك"، في إشارة إلى فضيحة وزير الدفاع الألماني السابق، الذي استقال العام الماضي على خلفية فضيحة سرقة أدبية، ارتكبها أثناء كتابة رسلاته للحصول على لقب الدكتوراه.
علاقة الصحافة الصفراء برجال السياسة
ويؤكد نوربرت بولتس على أن انتماء رجل السياسة الحزبي لا يلعب دوراً في أسلوب تعاطي جريدة بيلد معه على صفحاتها "بيلد تتعاطى بنفس الأسلوب مع غيرهارد شرودر ومع رئيس ولاية غير مهم، ينتمي للحزب المسيحي الديمقراطي.. الصحافة الصفراء تعني البحث عن الإثارة والفضائح والمشاهير. وعندما يتمتع السياسي بشهرة، فإن انتماءه الحزبي لا يلعب أي دور".
و يتهم البعض الجريدة بشن حملات مغرضة وبإصدار الأحكام المسبقة، كما حدث في قضية الاغتصاب، التي اتهم مذيع نشرة الطقس يورغ كاخيلمان بالضلوع فيها، والذي بُريء من التهمة فيما بعد.
أما بالنسبة لقضية الرئيس الألماني كريستيان فولف، التي ما زالت تشغل الرأي العام في ألمانيا، فإن هيربيرت برانتل رئيس القسم السياسي في جريدة زود دويتشه تسايتونغ (Süddeutschen Zeitung ) لا يرى أن الصحيفة تجاوزت حددوها لتصبح أداة لشن حملات مغرضة. ويضيف "لا يحق للصحفيين بالطبع اقتحام المنزل الخاص للرئيس والتقاط صور، فهذا ليس له علاقة بالمصلحة العامة، لكن لديهم كامل الحق في طرح أسئلة حول ثروته الخاصة والتحقق من مصادرها".
وكانت صحيفة بيلد قد وجهت اتهامات للرئيس الألماني بالحصول على قرض بمزايا مالية واستغلال منصبه، لكن الرئيس نفى تلك الاتهامات.
الجدل الدائر الآن في ألمانيا حول سلبيات وإيجابيات صحافة الإثارة ليس بالأمر الجديد. فمقتل الأميرة ديانا أثناء محاولتها الإفلات من ملاحقة المصورين لها وتسريح صحيفة زونتاغس بليك (Sonntags Blick) السويسرية رئيس تحريرها، بعدما تم فبركة صور عارية لعشيقة أحد السفراء، كانا قد أشعلا جدلأ أكثر شراسة مما هو عليه في ألمانيا. مثل هذه الحوادث تدل على أن خلق التوازن بين مبدئي حرية الصحافة واحترام حرية الآخرين معادلة صعبة، قد تعجز بعض الصحف عن حلها.
يوهنا شميلر/ مي المهدي
مراجعة: عارف جابو