السودان الجديد يمتلك أوراقا لفك عزلته ..لكن الطريق شاقَّة
١٤ فبراير ٢٠٢٠يخضع السودان منذ العام 1993 لعقوبات بسبب إدراج اسمه على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، مما منعه من الحصول على أي مساعدات اقتصادية دولية، وأغرق البلاد في تدهور إقتصادي ومعدلات تضخم هائلة.
ومنذ الإطاحة بنظام البشير، باشرت الخرطوم مساعي من أجل الخروج من العزلة الدولية، واتخذت هذه الخطوات مؤخرا زخما أكبر باعلان السودان نيته تسليم الرئيس السابق البشير إلى محكمة الجنايات الدولية، كما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تأييدها للثورة السودانية، وحثت حلفائها للسير على خطاها.
ويرى مراقبون بأن زيارة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك إلى برلين ولقائه بالمستشارة أنغيلا ميركل، كخطوة جديدة في مساعي الخرطوم لفك طوق العزلة الدولية.
وكانت رئيسة لجنة مجلس الأمن الدولي للعقوبات المفروضة علي السودان منذ عام 2005، قد أبلغت مؤخرا أعضاء المجلس بإحراز السلطات السودانية "إنجازات" تتعلق بالحالة في إقليم دارفور(غرب).
ويتطلب رفع العقوبات الدولية المفروضة علي السودان صدور قرار من مجلس الأمن.
لماذا التركيز على واشنطن وإسرائيل؟
التداعيات الكبيرة التي خلفتها القائمة الأمريكية على السودان خلال الثلاثين عاماً الماضية، دفعت الحكومة السودانية الحالية إلى التوجه أولا إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل "تحسين سمعة السودان"، إذ جرت زيارات متبادلة وحثيثة مؤخراً بين الخرطوم وواشنطن، شملت كبار المسؤولين من الطرفين.
ولهذا فإن توقيع تسوية لتعويض عائلات ضحايا تفجير المدمرة يو إس كول الأمريكية بمبلغ 30 مليون دولار، كان إحدى التوجهات الأولى في محاولة وضع أرضية "ثابتة" لخلق سياسة أكثر "تسامحاً" مع السودان، بيد أن أستاذ العلوم السياسية بمركز العلاقات الدولية في السودان الرشيد محمد إبراهيم، يقول في لقاء مع مسائية DW، أن القضية السودانية أكبر من أن يتم طيها في إطار هذه التسوية، مضيفاً أن الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع السودان "كدولة لديها مصالح معها، وليس كنظام"، وعليه فإن السياسة الأمريكية تجاه السودان لن تتغير حتى لو تغيرت الأنظمة.
ويعقب بقوله إن إيفاء الإدارة الأمريكية من جانبها بإلتزاماتها مهم، إذ أن الاتفاق مجرد "صفقة" حتى الآن، وهذا في العمل السياسي ليس دقيقاً وأقرب إلى "البزنس" وخطوة تكتيكية وليست استراتيجية، على حد قوله.
وحول هذه النقطة يرد الخبير محمد المنشاوي في مقابلة مسائية DW، قائلا إن زيارة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك إلى واشنطن دليلاً على توجه أمريكي للنظر في الملف السوداني، والدفع باتجاه الحل، مؤكداً أن التزام الجانب السوداني بدفع التعويض هو "خطوة هامة وفاعلة"، ستساهم في توجيه إدارة ترامب إلى اتخاذ خطوات جريئة ينهي فيها "المعضلة".
هذه التسوية تشابه في طبيعتها قضية "لوكربي" الشهيرة، التي اعترف بموجبها النظام الليبي في فترة حكم العقيد الراحل معمر القذافي بتفجير طائرة أمريكية عام 1988، مما اضطر طرابلس إلى مواجهة عقوبات دولية وحصاراً اقتصادياً وسياسياً وإدراج اسمه في "قائمة الإرهاب"، وتم التصالح لاحقاً على اساس دفع تعويضات للضحايا، وهي تسوية وجد فيها الكثير من المراقبين "فخاً" وقعت فيه القيادة الليبية دون أن تثبت عليها جناية أمام قضاء محايد، وانطلاقاً من هذا التشابه فإن الخبير في الشؤون الأفريقية عطية عيسوي يرى، في حوار مع DW عربية، أن عدم الوقوع في ذات الفخ يعتمد على قدرة المفاوض السوداني في الحفاظ على أوراقه، وعدم تسليمها مرة واحدة، والتعامل بحكمة بحيث لا يتنازل عن "شيء" إلا إن حصل على "شيء ما" مقابله، مشيراً بأن الأمر يعتمد أيضاً على حجم الضغط الذي تمارسه واشنطن والدول الغربية على الخرطوم، وإن كانت ستحاول ابتزازها للحصول على كل مطالبها دفعة واحدة، أو خلال وقت متقارب دون مراعاة عوامل الضغط الداخلية في السودان.
وفي ذات السياق يرى الرشيد أن السياسة العقابية في واشنطن اعتادت على "خلق" شروط جديدة للتسويات السياسية كلما التزم الآخر بالشروط الأولى، مضيفاً أن هذا ما حدث مع ليبيا وكوبا وإيران والعراق سابقاً، معبراً عن تخوفه من عدم التزام إدارة ترامب بالتزاماتها في التسوية.
من جهة أخرى فإن تطبيع العلاقات مع إسرائيل أصبح ضمن الخطوات المتوقعة لتحقيق مصلحة السودان في رفع اسمه عن "قائمة الإرهاب"، وهو ثمن قد تدفعه الخرطوم مقابل الحصول على ضمانات حقيقية من واشنطن.
وبهذا فإن تحقيق "المصالح الوطنية والأمنية" للسودان أصبح الهدف الأول للحكومة الحالية، كما علق رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان، خلال لقاء له مع صحيفة "الشرق الأوسط" رداً على لقاء جمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مضيفاً أنه سيعمل على تحقيق مصالح السودان متى كان الأمر متاحاً.
وقد أكد البرهان في تصريحه إلى أن هذه الخطوة تلقى تأييداً شعبياً واسعاً، ولا ترفضه سوى مجموعات "أيدولوجية محدودة"، بينما يرى عيسوي أن خطوة تطبيع العلاقات مع إسرائيل بحاجة إلى "تأنٍّ" خوفاً من ردود أفعال عنيفة لدى السودانيين ضد ما يعتبرونه أمراً غير مقبول، لاسيما بعد استقالة مدير إدارة السياسة الخارجية في المجلس السيادي الانتقالي احتجاجاً على هذه الخطوة.
تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية
وقد شكّلت موافقة الحكومة السودانية على تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية خطوة أخرى في اتجاه الخروج من العزلة الدولية، كما يرى مراقبون، فيما يعتقد عيسوي أن أهداف هذه الخطوة "محلية" أكثر، فمحاكمة البشير مطلب شعبي داخلي ضاغط بشدة من حركات التمرد في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، باعتبار أن تسليم البشير والمتهمين الآخرين أحد الشروط لتحقيق "سلام شامل ودائم"، مشيراً إلى أن هذه الخطوة قد تأخذ وقتاً طويلاً، لأن تسليمه ورقة ضغط ولا يمكن التفريط فيها بسهولة.
الحديث عن تسليم مرتكبي جرائم الحرب في السودان يثير الجدل حول بعض الوجوه السياسية في الحكومة الحالية ممن يعتبرون رموزاً للنظام السابق، مثل قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، والذي يعتبر شخصية سياسية قوية لا يمكن تجاوزها في أي تفاهم مستقبلي، كما يرى الرشيد، مضيفاً أن واشنطن لازالت في طور تقييم الأوضاع وهل هي متجهة نحو الفوضى أو الاستقرار.
تحديات داخلية وخارجية
لعلّ أهم التحديات الداخلية التي تواجه حكومة الخرطوم الآن هو تحقيق السلام الشامل والدائم مع حركات التمرد، بالإضافة إلى ضرورة إنقاذ الاقتصاد، والذي عانى لسنوات طويلة من أزمات متكررة استمرت حتى بعد إزاحة نظام البشير.
ويرى عيسوي أن محاكمة عناصر نظام البشير محاكمة عادلة، هو تحدٍ آخر، إلى جانب مواجهة العناصر الموالية للنظام السابق، ممن هددوا بحرق السودان إن تم تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية، فلا بد للنظام من فرض سيطرته على الأوضاع جيداً حتى لا يقوم هؤلاء بارتكاب عمليات إرهابية سرية "تربك" الأوضاع في البلاد.
كما يشكل ضمان الحريات العامة والشخصية وتغيير القوانين التي تقيدها، جزءاً مهماً من التحديات التي يجب النظر إليها بعمق، حسب عيسوي، بالإضافة إلى التنمية الداخلية، التي تعتبر مطلبا أساسيا للمتمردين في عدد من مناطق السودان.
أما التحديات الخارجية، فتكمن بالخصوص في إدارة علاقات الجوار، إذ يرى عيسوي، أن تسوية الخلاف مع جنوب السودان، أمر قد يساهم في تحسين أوضاع السودان، كونه يعد أحد شروط رفع اسمها من "قائمة الإرهاب"، بالإضافة إلى ضرورة إنهاء التوتر الحالي مع مصر، وكان البرهان قد صرح في لقائه مع "صحيفة الشرق الأوسط" أن علاج تداخلات الخرطوم مع مصر يقوم وفقاً للنهج الذي يحفظ حقوق الشعب السوداني.
بوادر فكّ طوق العزلة
تطبيع العلاقات مع إسرائيل ومحاولة كسب رضا الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن القنوات الوحيدة التي يعمل من خلالها النظام السوداني الحالي لرفع العزلة عن نفسه، إذ عبّر البرهان عن العلاقات الجيدة التي تربط الخرطوم مع دول الخليج والمحيط الإقليمي، مؤكداً أن هناك علاقة خاصة واستراتيجية مع الرياض.
من جانب آخر فإن السودان استطاع كسب قرار من البرلمان الألماني باستئناف وتوسيع العلاقات الاقتصادية والتنموية بينهما، بعد عقود من الانقطاع، وقد أعلنت المستشارة أنغيلا ميركل إثر لقائها يوم الجمعة مع حمدوك في برلين، عن تعاطفها مع السودان، وقالت مخاطبة رئيس الوزراء السوداني: "نحن نتعاطف حقيقة مع المصير الذي يعانيه بلدكم". وأضافت ميركل أن السودان يواجه تحديات هائلة بعد ثلاثة عقود من الدكتاتورية، مؤكدة على أن الإصلاحات السياسية والاقتصادية هناك تعتبر "مهمة شاقة". وأكدت ميركل: "نود أن نعمل كل ما في وسعنا من أجل أن يستفاد من هذه النافذة التاريخية، وسوف ندعم السودان برفقة شركائنا بكل ما نستطيع."
وإضافة للعقوبات الأمريكية بمفعول تصنيف السودان ضمن "قائمة الإرهاب"، يخضع السودان لعقوبات دولية من قبل مجلس الأمن بموجب القرار 1591 الصادر عام 2005، والذي أنشأ في مارس/آذار من العام نفسه، لجنة خاصة لرصد تنفيذ الجزاءات ذات الصلة. وثمة مجموعتان من العقوبات المفروضة على السودان، هما الحظر المفروض على الأسلحة وحظر السفر، وتجميد الأصول للأشخاص المتورطين في الصراع الدائر منذ أكثر من 11 عاما في إقليم دارفور.
مرام سالم