الرسوم الكاريكاتورية ـ دوامة الكراهية تدخل منعطفا خطيرا
٢٨ أكتوبر ٢٠٢٠مقتل المدرس الفرنسي صمويل باتي أعاد جدل الوجود الإسلامي في أوروبا إلى الواجهة. فتزايد أعدادهم المضطرد في السنوات الأخيرة خلق تشنجات في عدد من المجتمعات الأوروبية، فهناك من يرى في ذلك خطرا يهدد التوازنات الديموغرافية بل وحتى الهوية الأوروبية.
فخلال السنوات الأخيرة احتضنت القارة العجوز أرقامًا قياسية من طالبي اللجوء الفارين من الصراع في سوريا وغيرها من البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وأثارت هذه الموجة من المهاجرين المسلمين نقاشات، لا تخلو من التوتر حول الهجرة والسياسة الأمنية في العديد من البلدان، وتساؤلات حول العدد الحالي والمستقبلي للمسلمين في أوروبا. ورغم أن الغالبية الساحقة من المسلمين يعيشون بشكل مسالم في المجتمعات التي احتضنتهم، إلا أنَّ هناك أقلية متطرفة ونشطة تتبنى تأويلات متشددة للإسلام وتشكل أرضية خصبة لخطر إرهابي يقض مضجع أوروبا. وفي الرسم البياني التالي نعرض للتطور الديموغرافي المتوقع للمسلمين بأوروبا خلال العشر سنوات المقبلة.
الرسوم ـ ذخيرة في حرب كلامية بين فرنسا وتركيا
جذور الأزمة تعود لرسوم كاريكاتورية تصور النبي محمد، نشرت أول مرة قبل أعوام في مجلة "شارلي إبدو" الفرنسية الساخرة التي تعرض مقرها لهجوم مسلح في عام 2015 قُتل فيه 12 شخصا.
ومنذ ذبح المدرس الفرنسي صمويل باتي في جريمة همجية هذا الشهر نُشرت الرسوم في فرنسا تضامنا معه، وهو ما أثار غضبا عارما في العالم الإسلامي. وتعهد الرئيس إيمانويل ماكرون بالتصدي لما وصفه "بالانعزالية الإسلامية" قائلا إنها تكاد تتملك بعض الجاليات المسلمة في فرنسا. ماكرون أكد أن بلاده "لن تتخلى عن رسوم الكاريكاتور "التي نشرتها شارلي إبدو".
أردوغان استغل المناسبة لتأجيج "الحرب الكلامية" بين باريس وأنقرة مصورا الرئيس الفرنسي وكأنه يقود حملة كراهية ضد الإسلام، مقدما نفسه في الوقت ذاته كمحام مدافع عن المسلمين. صحيفة "زودويتشه تسايتونغ" الصادرة في ميونيخ كتبت أن "أردوغان ينتقد ماكرون منذ فترة طويلة ويرى أنه لا يوجد تمايز في الإسلام بمعنى أنه لا يمكن الحديث عن إسلام أوروبي أو فرنسي، وأن السياسيين الأوربيين يستخدمون ذريعة الإسلام الراديكالي للتستر على أخطائهم".
أردوغان على غلاف "شارلي إبدو"
في تطور ملفت وضعت مجلة "شارلي إبدو" رسما كاريكاتوريا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على غلافها الجديد، فيما قد يزيد من تصعيد التوتر بين أنقرة وباريس. وأظهرت تغريدة للمجلة على "تويتر" غلافًا يظهر صورة كاريكاتورية لأردوغان جالسا على مقعد ويرفع ثوب امرأة ليكشف عن مؤخرتها وتحمل عنوان "أردوغان - لديه الكثير من المرح سرا". وقد ظهر العدد الجديد من المجلة الساخرة ظهر الأربعاء (28 أكتوبر/ تشرين الأول 2020).
وتأتي هذه الخطوة، بعد تأكيد ماكرون أن فرنسا لن تتخلى عن مبدأ الحرية في نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، وهو وعد قطعه أثناء مراسم تكريم المدرس صمويل باتي.
وكتب المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين على تويتر "ندين بشدة ما نشر عن رئيسنا في المجلة الفرنسية التي لا تحترم أي عقيدة أو قدسية أو قيم"، وأضاف: "إنهم يعرضون فقط بذاءاتهم وفجورهم. أي اعتداء على الحقوق الشخصية ليس دعابة أو حرية تعبير".
موقع "فيلت" الألماني أوضح أن حرب الكاريكاتور يقودها الجانبان، مشيرا إلى صحيفة "مسواك" الساخرة التابعة لحزب العدالة والتنمية التي نشرت قبل ساعات قليلة من "شارلي إبدو" رسما يظهر إيمانويل ماكرون في حفاضات أطفال بين ذراعي امرأة مسنة، في إشارة إلى زوجته بريجيت، التي تكبر الرئيس الفرنسي بـ 25 عامًا. وفي الرسم يظهر إيمانويل ماكرون يمص قنينة الرضاعة (البزَّازة) التي نقش عليها "كره" وعلى حافة الصورة كلمة "حرية الرأي". وحتى الآن لم ينزعج أحد في فرنسا من ذلك، يقول الموقع الألماني.
صحيفة "نويه تسوريشر تسايتونغ" (NZZ) السويسرية كتبت "لا يبدو أن فرنسا قادرة على إيجاد أي وسيلة ضد المتعصبين المتعطشين للدماء عندها. على الدولة أن تتخذ أخيرًا موقفًا حازمًا ضد ظواهر الاغتراب المتزايد للمسلمين داخل المجتمع وتغلغل الإسلام المتطرف (..) إن الجمهورية الفرنسية، التي تعتبر الدين مسألة خاصة، لا تلغي نفسها عندما تذكر بالاسم وتكافح تجاوزات جماعة دينية معينة، لكن ذلك يحدث عندما لا تفعل شيئًا ضدها".
شبكات أردوغان الإسلامية تهدد الأمن القومي الألماني؟
في رد على سؤال لمسؤولة الشؤون الخارجية في حزب اليسار الألماني سيفيم داغديلين، أكدت الحكومة الألمانية وجود علاقة بين الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا وبين الإسلامويين. وأشارت الحكومة إلى اتصالات مفتوحة بشكل متزايد مع حركة "ملي غوروش" (IGMG)، التي يعتقد أنها تشكل الجذور الإيديولوجية والسياسية لأردوغان. ورغم أن الحركة اعتبرته "خائنا" في فترة ما، إلا أن اتصالات بين الجانبين حدثت، خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016. و
جاء في رد الحكومة الألمانية أيضا أن "الدولة التركية تواصل سعيها للتأثير على المواطنين من أصل تركي في ألمانيا والتأثير بشكل انتقائي على عملية صنع الإرادة السياسية واتخاذ القرار في المجتمع الألماني ككل".
وأوضحت داغديلين "أنه أمر مرحب به أن ترى الحكومة الألمانية جذور أردوغان الإيديولوجية والسياسية في جماعة الإخوان المسلمين المناهضة للديمقراطية للمرة الأولى وتسميتها بشكل رسمي". وأكدت أن "شبكة أردوغان الإسلامية القومية تشكل تهديدا للأمن العام في ألمانيا ويجب تفكيكها بدلا من دعمها من قبل الدولة"، في إشارة إلى تمويل مساجد جمعية "ديتيب" في بعض الولايات الألمانية.
من جهتها، نددت المستشارة ميركل بكلمات صارمة بالهجمات اللفظية للرئيس التركي ضد نظيره الفرنسي ووصفتها بأنها "تشهيرية". وقال المتحدث باسم المستشارة شتيفن زايبرت "إنها تصريحات تشهيرية وغير مقبولة إطلاقاً"، خصوصاً في سياق "القتل المروّع للأستاذ الفرنسي صامويل باتي من جانب متعصب إسلامي".
وذهب وزير الخارجية هايكو ماس في نفس الاتجاه، معتبرا الأمر "هوة جديدة"، معبرا عن تضامن ألمانيا مع فرنسا في مكافحة التطرف الإسلامي.
ومن جهتها، أعلت المفوضية الأوروبية أن الدعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية "تتنافى مع روح" الاتفاقيات الدبلوماسية والتجارية الموقعة من جانب تركيا مع بروكسل و"ستُبعدها أكثر" عن التكتل القاري.
عواقب وخيمة ـ مخاطر اندلاع دوامة من الكراهية
بعد تظاهر آلاف من المحتجين في عدد من الدول، بعضهم داس صور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحت الأقدام، نصحت فرنسا رعاياها المقيمين في عدة دول ذات غالبية مسلمة بأخذ احتياطات أمنية في ظل تصاعد الغضب من رسوم كاريكاتورية للنبي محمد. وبهذا الصدد، علقت صحيفة "لا كروا" الكاثوليكية الفرنسية على الخلاف الفرنسي التركي وكتبت "الدبلوماسية الفرنسية قلقة بشأن عدد وسائل الإعلام في البلدان الإسلامية - خاصة تركيا - التي تغطي خطاب إيمانويل ماكرون الأخير (حول حرية التعبير). وغالبًا ما يتم إخراج كلامه عن سياقه، ويتم تصوير الأمر على أنه هجوم على الإسلام، مع تعمٌد تجاهل تمييزه بين الإسلام والإسلاموية المتطرفة".
ومن خلال سلسلة من التغريدات بثلاث لغات (الفرنسية، الإنكليزية والعربية)، حاول الرئيس إيمانويل ماكرون تهدئة الأمور، وكتب "نحترم جميع الاختلافات بروح السلام. لا نقبل مطلقاً خطاب الكراهية وندافع عن نقاش معقول. سنواصل". ولم يذكر ماكرون الرئيس التركي بالاسم أو الدول التي أُطلقت فيها دعوات لمقاطعة المنتجات الفرنسية.
وفي تعليقها على اغتيال باتي كتبت صحيفة "تاغسشبيغل" البرلينية تقول "إن القضية درس لألمانيا أيضًا. يجب ألا تتخلى المدارس عن المدرسين في حال تعرضهم للتهديد من قبل المتطرفين والمواطنين الغاضبين. يجب توفير حماية شرطية ودستورية لهم بشكل مبكر لمنع أي تصعيد. وينبغي التفكير بجدية فيما إذا كانت المدارس يجب أن تشغل مفوضين ضد التطرف وبالتالي وضع نظام استشعار مبكر".
صحيفة "باساور نويبرسه" الألمانية أكدت بدورها أن الرئيس التركي "أثار كراهية إيمانويل ماكرون ونصف أوروبا بافتراض أن المسلمين يتعرضون للاضطهاد هنا مثل اليهود في العهد النازي. هذا مجرد كذب، وأردوغان يعرف ذلك، وهو يتحدث عن حملة كراهية ضد إخوانه في الدين وذلك بعد وقت قصير من مقتل مدرس فرنسي بوحشية على يد أحد أتباع الإسلام المُضللين".
حسن زنيند