الذهب الأسود نقمة على أصحابة اذا أٌسئ استخدامه
يحاول العديد من الخبراء تفسير ظاهرة الفقر في الدول الغنية بالموارد الطبيعية والتي يُفترض أن ينعم سكانها برغد العيش. فقد يظن الكثير أن الصادرات النفطية توفر السيولة النقدية اللازمة من العملة الصعبة ليُعاد استثمارها في الدول المنتجة للنفط لتحقيق النمو الاقتصادي فيها. إلا أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمعظم الدول لا يوحي بحدوث الرخاء المنظور، فما زال عدد كبير من السكان يعاني من الفقر والجهل وعدم الحصول على الخدمات الضرورية. فبدل الرفاهية الاقتصادية والرخاء الاجتماعي ساهمت مداخيل النفط في تفشي الفساد المالي والاقتتال من أجل السيطرة على هذه المداخيل أو مصادرها، إضافة إلى ذلك يسجل المتتبعون الاقتصاديون نوعا من الفتور في رغبة هذه الدول في الاستثمار والاكتفاء بالاعتماد بشكل شبه كلي على تلك العائدات. وفي هذا الإطار قام خبير اقتصادي من معهد دراسات الاقتصاد الألماني في مدينة كولون، هوبرتوس براد، بمحاولة دراسة هذه الظاهرة وخصوصا انعكاسات الذهب الأسود (النفط) على اقتصاد الدول المنتجة له. وقد أثبتت دراسته ميول معظم الدول التي تملك موارد طبيعية إلى الاعتماد الكلي على عائداتها من هذه الموارد لإدارة الدولة، وقد أظهر الباحث كذلك انعدام الاهتمام بتشجيع الاستثمارات في ميادين أخرى يعتمد عليها اقتصاديا بدل النفط.
التجربة الهولندية
ساهمت التجربة الهولندية في تسليط مزيد من الأضواء على ظاهرة الانعكاس السلبي للموارد والثروات الطبيعية، خاصة النفط، على ديناميكية الاقتصاد. ويعود تاريخ هذه التجربة إلى فترة الستينات إبان اكتشاف النفط والغاز الطبيعي في بحر الشمال قرب الساحل الهولندي. وكان أثر هذا الاكتشاف النفطي سلبيا جدا على اقتصاد هذا البلد، حيث تضررت المبادلات التجارية الهولندية جراء الارتفاع الملحوظ الذي شهدته العملة المحلية ورافقه ركود اقتصادي أدى إلى تفشي البطالة. وقد أطلق على تلك التجربة الآفة الهولندية ""Dutch Desease. واحتاج الاقتصاد الهولندي بضعة أعوام لضبط انعكاسات المداخيل الجديدة على معدل النمو، حتى أصبح بعدها النفط يصب في الصالح العام بما فيه الحفاظ على رفاهية الشعب الهولندي. وعلى عكس ذلك أفرزت تجربة الدول المصدرة للبترول "أوبيك" معطيات مغايرة عن تلك التي وردت في النموذج الهولندي، حيث تعدى الدخل الفردي السنوي 20.000 دولار في دول مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر، في حين بقي الدخل منخفضا نسبيا في باقي الدول. أما نيجيريا وزامبيا فلم يتجاوز الدخل الفردي السنوي فيها 1000 دولار.
الموارد النفطية
يعرف عن الدول المنتجة للنفط، خاصة دول الأوبك، هاجسها الأمني المبالغ فيه في معظم الأحيان. ويتجلى ذلك بالمبالغ الضخمة المخصصة للنفقات العسكرية في ميزانيات تلك الدول والتي تأتي على حساب قطاعات حيوية أخرى كالتعليم والتنمية. وقد لوحظ أن دول الأوبك خصصت في السنوات ما بين 1988 و2001 ما يقارب 6 بالمائة من الدخل القومي الإجمالي في حين تُخصص لقطاع التعليم ميزانيات أقل من ذلك بكثير. أما دعم البحث العلمي في تلك الدول فيبقى شبه منعدم. ولعل أهم المشاكل التي تعاني منها الدول النفطية هي مشكلة تفشي الفساد المالي والإداري. فالموارد المالية الطائلة التي تتدفق على خزائن الدولة تثير الأطماع بالسلطة للسيطرة على تلك الموارد وضمان الإمتيازات الشخصية. وفي بلدان أخرى مثل روسيا ساهمت عائدات النفط في سداد بعض مستحقاتها من الديون الخارجية وبالتالي من تخفيف العبء المالي الملقى على ميزانيتها العامة. وتبقى النرويج النموذج المثالي بين الدول المصدرة للنفط حيث استطاعت استغلال عائداتها النفطية على أحسن وجه، وذلك بإنشائها صندوقا خاصا للعائدات النفطية تودع فيه قسطا من مجمل تلك العائدات تحسبا لأزمات اقتصادية قد تتعرض لها الدولة في المستقبل.
النموذج الإماراتي
يعتبر الخبير الاقتصادي، هوبرتوس بارت، الإمارات العربية المتحدة من بين الدول النفطية التي استطاعت التخفيف من الاعتماد الكلي على عائدات النفط في اقتصادها حينما لجأت إلى الاستثمار الضخم في مجالي السياحة والتجارة الخارجية وخصوصا في دبي والعاصمة أبو ظبي. وقد نجم عن انفتاح الاقتصاد الإماراتي على مجالات أخرى تحقيق نمو اقتصادي ملحوظ نجم عنه تحول دولة الإمارات العربية المتحدة من واحة نفطية إلى مركز مالي دولي في المنطقة الآسيوية وملاذا مفضلا لرؤوس الأموال العالمية.