الذكرى العشرون لكارثة مفاعل تشرنوبيل: قراءة وتأمل
٢٦ أبريل ٢٠٠٦في مثل هذا اليوم، قبل عشرين عاما، فاقت البشرية على وقع كارثة مفاعل تشرنوبيل النووية التي تخطت آثارها الحدود الإقليمية لأوكرانيا لتطال دول وقارات تفصلها عنها آلاف الأميال ولتنقل رسالة للعالم مفادها أنّ الإشعاع النووي خطر يطال القاصي والداني وأنه لا مأمن لأحد من شِروره. ونحن إذ نعيش اليوم ذكرى هذه المأساة الإنسانية ونستذكر الضحايا ومعاناة من يئنون تحت وطأة الأمراض المصاحبة لها، ليَرى المرء اليوم أنّ فصول هذه المأساة لم تغلق بعد وأنّ آثارها تتسلل إلى جينات الأجيال، في رسالة لم يفلح العالم في قراءة دلالاتها، ليستمر التسابق نحو امتلاك القدرة النووية من قبل الكثير من الدول.
هذه الكارثة وقعت نتيجة أخطاء بشرية ارتكبها العاملون عند قيامهم بإجراء تجربة على التوربين رقم 8 بالوحدة الرابعة، مسببا حريقا هائلا في المفاعل صاحبه انتشار سحب كثيفة من الغبار النووي والمواد المشعة غطت سماء المنطقة. هذا وقد ساهمت الظروف الجوية آنذاك بانتشار سحب ذرية فوق مناطق شاسعة لتزيد الأمر تعقيدا. لقد كان حجم الكارثة كبيرا، فقد أكدت الدراسات والمسوحات الجيولوجية أنّ المواد المشعة وصلت إلى دول أوروبا الغربية كألمانيا وإيطاليا وكذلك شرق أوروبا كرومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا كما وصلت إلى منطقة البحر الأسود والشرق الأوسط وحتى شرق الولايات المتحدة الأمريكية.
كارثة بشرية وصحية
رغم مضي عشرين عاما على فصول هذه الكارثة الكونية، إلا أنه لا تتوافر حتى يومنا هذا بيانات دقيقة عن الأعداد الحقيقية للذين قضوا بسبب التعرض المباشر للإشعاع أو غير المباشر نتيجة للتلوث البيئي بالإشعاعات وأمراض السرطان التي لم ينحصر أثرها فقط بين أولئك الذين يقطنون في مناطق قريبة من منطقة الكارثة، بل تعداها الى مناطق أخرى. فهناك حتى اليوم حالات سرطانية سجلت بسبب هذا الإشعاع في دول أخرى كالسويد مثلا. وفي تقرير للأكاديمية الروسية للعلوم بيّن أنّ 270،000 شخص مصابون بالسرطان في روسيا البيضاء وأوكرانيا وروسيا نتيجة لإشعاعات نووية، وأنّ 93,000 منهم مصيرهم الموت المحقق. وعن حجم الأعداد الحقيقة، اتهمت منظمة "غرينبيس" (السلام الأخضر) الامم المتحدة بالتقليل من أخطار هذه المأساة بالقول إنه "من المروع أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتكتم على آثار أخطر حادث نووي في التاريخ البشري". وحسب إحصاءات منظمة السلام الأخضر فإنّ معدلات الإصابة بالسرطان في روسيا البيضاء قد ارتفعت بنسبة 40 في المائة خلال الفترة بين 1990 و2000. وخلص التقرير إلى نتيجة مفادها أنّ "جيلنا رأى كيف بدأت الكارثة، لكنه لن يرى النهاية".
وفي السياق ذاته، خلص تقرير آخر أعده باحثون مستقلون بتفويض من ريبيكا هارمز عضو البرلمان الأوروبي عن حزب الخضر الألماني عن أثر الكارثة خارج دول روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء إلى القول: "على الرغم من تعرض مناطق بروسيا البيضاء وأوكرانيا وروسيا لتلوث شديد فان معظم الغبار الذري المتساقط من انفجار مفاعل تشرنوبيل استقر خارج هذه الدول." وقد أشار التقرير ذاته إلى أنّ "تسبب الغبار الذري المتساقط من تشرنوبيل في تلويث نحو 40 في المائة من سطح أوروبا"، مؤكدا ان السكان خارج روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء واجهوا أيضا "وفيات سببها السرطان بمعدلات تعادل مثلي توقعات كثيرين." وحسب هذه الدراسة فإنّ ما بين 30 ألف الى 60 ألف حالة وفاة بالسرطان حصلت تقريبا بحلول نهاية القرن الحالي مرتبطة بكارثة تشرنوبيل.
تخليد ذكرى الضحايا
في الذكرى العشرين لكارثة تشرنوبيل ينشط العالم في إحياء ذكرى من سقطوا جرّاء الإشعاعات. وكذلك يحاول إيجاد الإجابة على كثير من الأسئلة التي طرحت وما زالت تطرح وأهمها: هل أصبح العالم اليوم أكثر أمنا بفعل التكنولوجيا الحديثة التي تضمن الحد من آثار التسرب أم أنّه لا أمان ولا أمن لأحد مع تسرب نووي كبير قد لا يبقي ولا يذر؟ وفي هذا الإطار تنشط جماعة السلام الأخضر في ألمانيا من خلال فعاليات ونشاطات مختلفة ستقام في حوالي سبعين مدينة لتخليد ذكرى الضحايا والقيام بحملات التوعية بين المواطنين للتنبيه الى أخطار المفاعلات النووية وفيما اذا كانت ألمانيا بمأمن من هذه الإشعاعات. وفي هذا السياق، ستضاء الشموع قي مدينة برلين تخليدا وإحياء لذكرى ضحايا هذه الكارثة وسترفع لافتات تطلب إغلاق المفاعلات النووية. وكذلك سيفتتح في مدينة هامبورغ معرض صور خاصة بالضحايا. ومن المتوقع ان ينتقل هذا المعرض إلى مدينة ميونخ وبرلين أيضا. وبشأن السياسة الدولية إزاء القدرة النووية وأوجه استخداماتها، طالب يورغ فيدرن، أحد خبراء الطاقة والناشط في هذه المنظمة، وكالة الطاقة الدولية بإعادة النظر في سياستها ومواقفها حتى من الاستخدام السلمي للطاقة النووية بالإشارة الى إمكانية تحول المشاريع السلمية إلى مشاريع قاتلة.
تعطش للطاقة النووية
يبدو أن العالم لم يحسن قراءة أخطار كارثة تشرنوبيل وتبعاتها البيئية والبشرية، إذ ما يزال التعطش للحصول على الطاقة النووية مستمرا. ففي هذا الإطار، تحاول الصين جاهدة زيادة الاعتماد على المفاعلات النووية كمصدر للطاقة بحكم الزيادة المضطردة في نموها الاقتصادي. وكذلك تبحث بريطانيا مسألة تجديد محطاتها النووية القديمة رغم الجدل الواسع في الساحة البريطانية، ناهيك عن الملف النووي الايراني الذي قد يكون مدعاة لحرب ضروس يروح ضحيتها الكثير من الأرواح. يذكر أن عوامل خارجية ساهمت أيضا في السعي نحو هذه الطاقة بحكم الأزمات السياسية التي تعصف بمناطق الإنتاج في الشرق الأوسط والخوف من نقص إمدادات الطاقة في العالم.
وفي المقابل، أخذ دعاة حماية البيئة بدق ناقوس الخطر من هذا التعطش لإنشاء محطات نووية وتبعات ذلك بيئيا وصحيا واقتصاديا. وحسب تقاريرهم فإنّ التخلص من النفايات النووية والحد من إمكانيات التسرب النووي يشكل تحديا كبيرا للمجتمع الدولي. وترى جين مكسورلي إحدى الناشطات في جماعة السلام الأخضر إن هذا "التفاؤل بشأن القطاع النووي لا يعدو كونه خداعا للناس". ومهما يكن من أمر، فإنّ الطاقة النووية سلاح ذو حدين يجب التعاطي معه بحذر وروية.
جدل سياسي ألماني
تشغل مسألة الطاقة النووية في ألمانيا حيزا واسعا في الساحة السياسية وتتضارب المواقف من هذه المسالة من حزب إلى آخر. وفي هذا الصدد، فإنّ الحزب المسيحي الديمقراطي الذي تنتمي إليه المستشارة الحالية ميركل يدعو إلى استثمار مزيد من الأموال في الطاقة النووية، الأمر الذي يعارضه الحزب الاشتراكي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحاكم، حيث يدعو إلى استثمار الأموال في أبحاث للطاقة المتجددة كطاقة الرياح والشمس مثلا. ومن المتوقع أن تثير هذه المسالة جدلا واسعا بين هذين الحزبين بالإضافة إلى الجدل الذي تثيره بين الحين والآخر في الساحة الشعبية وبين جماعات دعاة حماية البيئة. ومن الجدير بالذكر، إنّ حزب الخضر تصدى إلى سياسة توسيع استخدام الطاقة النووية من خلال الدعوة إلى إغلاق العديد من المفاعلات النووية الألمانية بدعوى انها قد تآكلت ولا تتوفر فيها نسب الأمان العالية وانّه لا تتوافر إجراءات وقاية كافية لمواجهة آثار تسرب نووي ممكن.