إطلالة على الحضور الثقافي العربي في ألمانيا
تطلعنا كتب التاريخ على أول مرة يرد فيها ذكر الألمان عند العرب. والقصة تتحدث عن العلاقة التي كانت تربط الخليفة العباسي هارون الرشيد بالقيصر الألماني كارل الكبير أو شارلمان الكبير كما يسميه العرب والهدايا المتبادلة بينهما تعود للقرن التاسع الميلادي. ويرجح أن تكون العلاقة بينهما قد شهدت تبادل سفراء ومبعوثين. المؤسف في الأمر إن كتب التاريخ أهملت ذكر الأسماء والأماكن والتفاصيل، وأوردت عوضاً عن ذلك قصة الساعة التي أهداها هارون الرشيد لبلاط كارل الأكبر.
أول عربي يقف على مشارف براندبورغ
يقول المؤرخان الألمانيان فرانك غينزمان و غيرهارد هوب إن اول زيارة عربية مؤرخة لألمانيا كانت لإبراهيم ابن يعقوب الإسرائيلي وهو يهودي عربي نشأ في الأندلس وكان على ما يبدو منتمياً لبعثة دبلوماسية. أرسلها حاكم الأندلس الخليفة الحكم الثاني، الذي حكم حتى عام 976، للقاء اوتو الأول في مدينة ماغدبورغ. وتنقل لنا كتب التاريخ مرة أخرى مشاهدات ابن يعقوب الذي وصف قلعةً وجسراً خشبياً في المدينة، ولكنها تصمت هي الأخرى عن ماهية وجدوى هذه البعثة.
وبعد ذلك بوقت طويل، زارت بعثة دراسية مصرية برلين عام 1853. وكانت تضم 9 طلاب لدراسة الطب والصيدلة والعلوم العسكرية. وتوالت بعدها البعثات الدراسية العربية إلى ألمانيا، حتى بدأ نوع جديد من هذا الحضور الذي تبلور في طرح العرب لقضاياهم السياسية في وسائل الأعلام الألمانية. فنشر مصطفى كامل (1874- 1908) والشيخ صالح الشريف التونسي، والي تونس السابق، كتاباتهم في الصحافة الألمانية والتي دعوا فيها إلى استقلال تونس ومصر من السيطرة الاستعمارية.
أول صحيفة عربية في ألمانيا تصدر خلف القضبان
أتت الحرب العالمية الأولى بكل أهوالها لتفتح بابا جديداً على التواجد العربي في ألمانيا. فبعد ان أسرت دول المحور الكثير من عرب شمال أفريقيا الذين اجبروا قبل ذلك على العمل في جيوش الحلفاء القسري، كان لابد من توفير الحاجات الأساسية لهم بشكل لا يتعارض مع التزاماتهم الدينية. لذلك تم إنشاء معسكر اسر خاص في منطقة "فونسدورف" عام 1915 أطلق عليه اسم معسكر الهلال. وفي هذا المعسكر صدرت أول صحيفة عريبة في ألمانيا، وكانت تحمل عنوان "الجهاد" وتصدر أسبوعيا. وقد اتخذت نهجاً في رفض الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي وروجت لشرعنة السيطرة العثمانية على البلدان العربية. كما حثت الجنود على الدخول في الجيش التركي الذي كان يقاتل جيوش الحلفاء جنباً إلى جنب مع الجيش الألماني.
وبعد 10 سنوات من ذلك صدرت أول صحيفة عربية شهرية مستقلة في ألمانيا بعنوان "العلم المصري" حررها الدكتور محمد فاضل عبد الله من برلين. وكانت هي الأخرى غير بعيدة في طرحها عن الوضع العربي الراهن آنذاك، فقد كتب على صفحتها الأولى "في سبيل الله والملك والوطن." وبعد انتهاء الحرب تم إطلاق سراح الأسرى الذين رفض بعضهم العودة إلى بلدانهم لأسباب عدة، أهمها تلك المتعلقة بالوضع الاقتصادي والمعيشي. فاستغلوا فرصة البقاء في ألمانيا للعمل، مشكلين بذلك نواة التواجد العربي الأولى في ألمانيا.
العرب في ألمانيا اليوم
يقول هارون سويس الذي اشترك في تأليف كتاب: "العرب في برلين": ان الجالية العربية واحدة من أكبر الجاليات في برلين. ويرى سويس أن العرب البرلينيين يجدون أنفسهم منتمين إلى الثقافة العربية، وهم لا يشكلون مجموعة منغلقة على نفسها". وتختلف صفة المهاجرين العرب اليوم إلى ألمانيا، فبعد أن كان معظمهم في ستينيات وسبعينات القرن الماضي من العمال الذي تركوا بلدانهم هرباً من الفقر والملاحقات السياسية، نجد اليوم غلبة الطلبة على القادمين منهم. وقد حضر هؤلاء للدراسة في جامعات ألمانيا التي تتمتع بسمعة جيدة في البلدان العربية. ويعود لهم الدور الأكبر في إنشاء العديد من المراكز والمنتديات الثقافية والإسلامية، التي تأخذ على عاتقها طرح القضايا العربية والاهتمام بالحاجات الثقافية للمغتربين العرب إضافة غلى تعريف الألمان بالثقافة العربية.
وبعد أن قدر للصحيفة العربية الأولى الصادرة في المانيا أن تكون رهن المعتقل مع قرائها، اصبح اليوم من الممكن الحديث اليوم عن صحف ومجلات عربية تصدر اليوم باللغتين. بل إن الأمر يتعدى ذلك ليصل إلى دور النشر العربية التي أُسست في ألمانيا للعمل على بناء جسور الحوار بين الثقافتين عن طريق التعريف بتاريخ وأدب وعلوم كل منهما. ومن دور النشر هذه "دار الجمل" التي يديرها الكاتب العراقي خالد المعالي والتي صدر عنها ترجمات عربية لأعمال أدبية لكبار الكتاب ألمان، وكذلك ترجمات ألمانية لعدد من الشعراء العرب. الأمر الذي يسلط الضوء على الحضور الثقافي للعرب في ألمانيا في وقت كثر الحديث فيه عن أهمية الحوار الفعال بين الثقافات.
عماد م. غانم