إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
٢٤ أبريل ٢٠٢٤تعد شركة "باسف" (BASF) الألمانية العملاقة أكبر شركة كيميائية في العالم وإحدى القلاع الصناعية الهامة في أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
تمتلك الشركة حوالي 230 منشأة إنتاجية مع توظيف أكثر من 11 ألف شخص، يعمل ثلثهم في مقرها الرئيسي في مدينة لودفيغسهافن على نهر الراين بولاية راينلاند-بفالس. وفي إشادة بالمنشأة، قال الرئيس التنفيذي للشركة مارتن برودرمولر إنها "أكبر مصنع للكيماويات في العالم".
بيد أن الشركة ورغم هذا النجاح الكبير، تواجه الآن أزمة كشف عنها برودرمولر خلال مؤتمر مؤسسة اقتصاد السوق في برلين الشهر الماضي. وفي ذلك، قال: "قمنا بجني الكثير من الأرباح العام الماضي في جميع أنحاء العالم، لكن في لودفيغسهافن، خسرنا 1.5 مليار يورو (1.6 مليار دولار)". وعزا مراقبون ذلك إلى ارتفاع تكاليف الطاقة وصرامة لوائح مواجهة تغير المناخ.
ويشير المراقبون إلى أن ذلك يتزامن مع توقعات بزيادة الطلب على الكهرباء في قطاع التصنيع رغم الغموض حيال المصادر الجديدة للطاقة ، وهو ما تسبب في شعور برودرمولر بالأسف، قائلا: "علينا أن نغلق محطات توليد الطاقة التي تعمل بالغاز ذات الكفاءة العالية في لودفيغسهافن. إذا اضطررنا لذلك، سنعمل على تشييد توربينات الرياح في بحر الشمال".
وكانت الشركة قد ضخت استثمارات كبيرة في بناء مزرعة رياح قبالة الساحل الهولندي، لكنها فوجئت بزيادة أسعار استخدام خطوط الكهرباء من قبل مشغلي الشبكات الألمانية مطلع العام الجاري. وقال برودرمولر إن تكلفة نقل الكهرباء إلى لودفيغسهافن الآن باتت أكبر من تكلفة إنتاجها في بحر الشمال.
فاتورة تحول الطاقة
ويقول خبراء إن مشغلي شبكات الطاقة في ألمانيا في حاجة إلى الكثير من الأموال بهدف توسيع شبكات البنية التحتية إذ جرى التخطيط لتشييد حوالي 14 ألف كيلومتر من خطوط الجهد العالي الجديدة مع إضافة آلاف الكيلومترات الأخرى في المستقبل.
بيد أن خطة التحديث تواجه أزمة بسبب نقص الأموال والإعانات الحكومية بعد أن قضى حكم المحكمة الدستورية بوقف تحويل مليارات من الميزانية الاتحادية.
وعلى وقع ذلك، يتعين على الحكومة الاتحادية خفض التكاليف مع مطالبة أوساط المستهلكين والشركات بدفع المزيد من الأموال. ويساور برودرمولر الشكوك حيال ذلك، في موقف مشابه لرؤساء كبرى الشركات الألمانية. ففي خطاب إلى الحكومة، طالب برودرمولر ورؤساء دويتشه تليكوم، عملاقة الاتصالات الألمانية، وشركة "إيون"، كبرى شركات الطاقة في ألمانيا، بإيجاد بديل آخر لتمويل تكاليف خطة التحول في الطاقة بعيدا عن زيادة الفاتورة.
ويرجع مراقبون سمعة ألمانيا الصناعية القوية على المستوى الدولي إلى وجود بنية تحتية فعالة وجديرة بالثقة خاصة في قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات. وفي تعليقه، قال برودرمولر إن "البنية التحتية في ألمانيا تعد مسألة حياة أو موت"، مضيفا أنه إذا كانت الطرق والجسور والممرات المائية في حالة سيئة مع عدم تطوير منظومة السكك الحديدية والتقاعس في توسيع خطوط الكهرباء والألياف الضوئية وعملية الرقمنة؛ "فلن تستقطب ألمانيا الكثير من الشركات".
وضع متدهور
من جانبها، تؤكد الحكومة على أنها تأخذ الأمر على محمل الجد؛ إذ شدد وزير النقل والبنية التحتية الرقمية فولكر فيسينغ على حاجة البلاد الكبيرة لتحسين البنية التحتية وتحديث أنظمة النقل، خاصة منظومتي السكك الحديدية والطرق السريعة.
وتشير التقارير إلى وجود أكثر من أربعة آلاف من جسور الطرق السريعة في حالة سيئة، فيما لا يقتصر الأمر على خطوط الطرق السريعة، إذ بات 40 خطا من خطوط السكك الحديدية متهالكا ما يستدعي إعادة البناء بالكامل بطول إجمالي يبلغ 4000 كيلومتر فيما تبلغ الإعانات الحكومية نحو 27 مليار يورو حتى عام 2027. بيد أن الخبراء يقولون إن هذا المبلغ لن يكون كافيا.
يُشار إلى أن الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات تعاني من نقص الموارد المالية اللازمة لتنفيذ هذا الكم الكبير من مشاريع التحديث، فيما يأتي ذلك في ظل مشكلة رئيسية تتمثل في آلية "كبح الديون"، وهي قاعدة مالية أضيفت إلى دستور البلاد في عام 2009 بهدف إرغام الحكومات الألمانية على تحقيق توازن بين المصروفات والإيرادات، بما يشمل فرض قيود صارمة على عمليات الاقتراض الجديدة.
ولم يتم السماح بالموافقة على ديون إضافية بقيمة 60 مليار يورو إلا عقب إعلان حالة الطوارئ كما حصل إبان وباء كورونا، ما مهد الطريق أمام تعليق آلية "كبح الديون" مؤقتا.
وفي منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي، قضت المحكمة الدستورية الاتحادية بأنه لا يمكن نقل 60 مليار يورو من القروض غير المستخدمة لمكافحة جائحة كورونا إلى صندوق المناخ والتحول (KTF). ونتيجة لذلك، فقدت الحكومة مليارات للسنوات المقبلة لتمويل المشاريع المركزية للتحول إلى الطاقة النظيفة.
وفي ذلك، يرغب الحزب الديمقراطي الاشتراكي وحزب الخضر في تعليق آلية كبح الديون مرة أخرى، كما حدث خلال الجائحة والحرب في أوكرانيا، لكن الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي)، المكون الثالث للائتلاف الحاكم، يرفض ذلك؛ إذ يطالب بأن تشرع كافة الوزارات في عملية اقتطاعات بداية من العام المقبل.
ويقول الخبراء إنه حتى بدون إنفاق كبير على تحديث البنية التحتية، فإن الفجوة المتوقعة في الميزانية قد تتراوح ما بين 25 إلى 30 مليار يورو.
دور القطاع الخاص؟
وفي السياق ذاته، شدد الوزير فولكر فيسينغ، الذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي الحر، على الالتزام بآلية كبح الديون، مشيرا إلى وجود خيارات أخرى في حالة عدم تمكن الميزانية من تغطية الاستثمارات الضرورية. وقال إنه يتعين "حشد رؤوس الأموال الخاصة"، مضيفا أنه يرغب في إنشاء صندوق للبنية التحتية تبلغ قيمته مليارات اليورو، حيث يمكن جمع الموارد لعدة سنوات.
وبحسب خطة فيسينغ، فإنه سيتم إنفاق أموال الصندوق بشكل رئيسي على تحديث شبكة النقل، لكن وزير المالية كريستيان ليندنر، الذي يتزعم الحزب الديمقراطي الحر، يرى أنه من الصعب تطبيق هذه الاستراتيجية على تنفيذ مشاريع البنية الأساسية الأخرى.
وفي مقابلة تليفزيونية، قال الوزير إن شركات التأمين تدير مبالغ ضخمة من المال لصالح عملائها، مضيفا: "يستحق الأمر بذل الجهد لحشد هذه الأموال لتوسيع شبكات الكهرباء و الهيدروجين".
وفي المقابل، يقول الاقتصاديون إن هناك حالة من الغموض تكتنف طريقة عمل الصندوق خاصة وأن شركات القطاع الخاص لن تقدم على ضخ استثمارات طويلة المدى، إلا إذا كان الأمر سيفضي إلى تحقيق أرباح مقبولة.
ويطرح الاقتصاديون تساؤلات هل سينجم عن ذلك فرض رسوم على الطرق السريعة أو الجسور؟. ولم تقدم وزارة النقل بعد أي إجابات على هذه الأسئلة.
ويفضل الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر إصلاح نظام كبح الديون للسماح بتمويل الاستثمارات الجديدة في البنية التحتية عن طريق الاقتراض، وقد حظي هذا الطرح بتأييد كبير من خبراء الاقتصاد.
من جانبه، اقترح رئيس المعهد الاقتصادي الألماني، ميشائيل هوتر، إنشاء صندوق خاص بقيمة 500 مليار يورو لتحديث البنية التحتية والتحول إلى جانب مخصصات الميزانية وذلك على غرار الصندوق الخاص بتحديث الجيش الألماني بقيمة مئة مليار يورو.
أعده للعربية: محمد فرحان