آفة الفساد في تونس: "كنس السلالم يبدأ من الأعلى"
٢٢ مارس ٢٠١١لا تزال وسائل الإعلام المحليّة تطالع التونسيين بشكل شبه يومي بـما اصطلح بعض المراقبين على تسميته بـ"غرائب وعجائب فساد العائلة المالكة" في عهد الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي الذي أطاحت به يوم 14 كانون الثاني يناير الماضي ثورة شعبية أنهت حكمه الذي استمر 23 عاما.
ويقصد التونسيون بعبارة "العائلة" كلا من عائلتي بن علي وزوجته الثانية ليلى الطرابلسي، وهما عائلتان وصفهما تقرير سري أمريكي سرّبه موقع ويكيليكس نهاية سنة 2010 بـ"المافيا".
وأشار التقرير إلى أن فساد "الطرابلسيّة" (نسبة إلى عائلة ليلى الطرابلسي) وخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم بن علي كان السبب الرئيسي لتنامي حقد التونسيين على نظام الرئيس المخلوع. واستند التقرير إلى مؤشّر منظّمة الشفافية العالمية لسنة 2007 الذي حذّر من أن توقّعات الفساد في تونس "تزداد سوءاً" بعد أن تراجع ترتيب البلاد من المركز 43 عالميا سنة 2005 إلى 61 سنة 2007.
ياسين بن نصير طالب جامعي قال لدويتشه فيله إن الفساد كان من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اندلاع ثورة تونس التي تفجّرت يوم 17 كانون الأول ديسمبر 2010 عندما أقدم البائع المتجوّل محمد البوعزيزي (26 عاما) على الانتحار حرقا أمام مقرّ محافظة سيدي بوزيد (وسط تونس) بعد أن رفض المحافظ الإنصات إليه.
وذكر كيف أن عشرات الآلاف من التونسيين خرجوا بعد هذه الحادثة في مظاهرات حاشدة بمختلف مناطق البلاد ندّدوا فيها برموز الفساد ورددوا شعارات مناهضة لعائلة الطرابلسي أشهرها "لا للطرابلسية...الذين نهبوا الميزانية" و"محاكمة شعبيّة لعائلة الطرابلسيّة".
ويؤكد مهتمون بالشأن التونسي أن الفساد "تغلغل" بشكل كبير في عهد بن علي الذي حكم تونس بين (1987-2011) حتى أن كثيرا من التونسيين استسلموا له وسايروه.
شخصية تونسية مسايرة للفساد !
المنصف ونّاس، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية والباحث الاجتماعي، عرّج في كتاب "الشخصية التونسية" الذي أصدره مطلع 2011 على موضوع الفساد في تونس.
قال الباحث في كتابه إن شخصية التونسي "لا ترى غضاضة في مسايرة الفساد الاجتماعي بكل صنوفه شريطة أن يؤدي ذلك إلى مكاسب مادية ومعنوية وحتى مهنية بغض النظر إن كانت صغيرة أم كبيرة" لافتا إلى أن شخصية التونسي "واقعيّة" و"حريصة على النفع الخاص" و"تتعامل مع الظواهر غير السوية بواقعية شديدة مع درايتها المسبقة بفساد الشخص".
ولاحظ أنّ "التعامل (في تونس) مع العناصر المرتشية والفاسدة اجتماعيا والتواطؤ معها لقاء تحصيل بعض المكاسب" يعكس ما يتميّز به التونسي من "واقعية نفعيّة مفرطة".
وانتقد الباحث غياب ردع الفاسدين حتى من بين من ثبتت إدانتهم. وقال في هذا السياق:"موظف عمومي يمارس الابتزاز المادي والمعنوي على امتداد أكثر من 15 سنة، وعلى الرغم من أنه تم إعلام جميع الإدارات المتعاقبة وكبار المسؤولين في الوزارة المعنية بسلوكيات الارتشاء والاتجار والابتزاز ولكن لم يتولد عن ذلك أي إجراء ردعي بحقّه".
وأشار إلى أن الفساد تحوّل إلى "شكل من أشكال الالتفاف على صعوبات المعيشة والحياة اليومية وتدبير الموارد اللازمة لها بغض النظر عن السبل والكيفيات التي يتمّ اعتمادا عليها الوصول إلى الموارد والمنافع".
وأوضح أن "محدودية إمكانيات الطبقة الوسطى التي تقدرها السلطة بحوالي 80 بالمائة من مجموع سكان تونس المقدر عددهم بحوالي 10 مليون نسمة" و"تعمّق ظاهرة مديونية الطبقة الوسطى جراء حالة عامة من الاستدانة العائليّة" وشح الموارد والإمكانيات وتوزيعها غير العادل و"التفاوت الكبير بين الطموحات والإمكانيات" و"انتشار خيال شبه جماعي تسوده فكرة الإثراء السريع" و"الانفجار المذهل في طلب الخدمات" إضافة إلى ضعف "الآليات الدفاعية والتحصينيّة في المجتمع (والتي) تكاد تكون معطلة" هي ابرز الأسباب التي جعلت التونسي يساير الفساد والفاسدين.
اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد
أصدر الرئيس التّونسي المؤقت فؤاد المبزع يوم 18 شباط فبراير 2011 مرسوما يقضي بإحداث "اللجنة الوطنيّة لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد"، للكشف عن حالات الفساد والرشوة التي قام بها أو استفاد منها أي شخص بفعل موقعه في الدولة أو بفعل قرابته مع مسؤول في الدولة خاصة خلال الفترة الممتدة من تاريخ تولّي بن علي الحكم إلى تاريخ الإطاحة به.
وتمّ تعيين عبد الفتاح عمر، أستاذ العلوم القانونية والرّئيس السابق للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، رئيسا للجنة التي تضمّ عشرة أعضاء.
عمر أعلن خلال مؤتمر صحفي عقده يوم التاسع من آذار مارس أن اللجنة تلقت منذ إحداثها 4239 عريضة حول الرشوة والفساد وأنه تمّ النظر في 519 ملفا منها، وبالخصوص ملفات تتعلق بالرئيس السابق وزوجته وبعائلتيهما وبالمسؤولين المقربين منهما وبأصدقائهما بصورة عامة. وذكر أن اللجنة عثرت بإحدى قصور الرئيس المخلوع على ما يعادل 27 مليون دولار أمريكي كانت مخبأة في خزائن مصفحة إضافة إلى مجوهرات نفيسة.
"مكافحة الفساد في تونس تمر بأزمة"
رفع عشرة محامين يوم 28 شباط فبراير الماضي دعوى إلى محكمة تونس الابتدائية طالبوا فيها بوقف عمل اللجنة التي قالوا إنها "غير دستورية". وقد وأصدرت المحكمة يوم 05 آذار مارس "حكما استعجاليا" يقضي بإيقاف عمل اللجنة أيّدته محكمة الاستئناف بحكم أصدرته بعد ذلك بخمسة أيام.
القاضي أحمد الرحموني رئيس جمعية القضاة التونسين عبّر خلال جلسة عامة استثنائية عقدتها الجمعية عن استياء القضاة التونسيين من عدم استشارتهم قبل بعث هذه اللجنة محذرا من أن المهام التي تقوم بها هي من اختصاص القضاء وحدهم. ويوم 13 آذار مارس أعلن عدد من نشطاء المجتمع المدني عن تأسيس "شبكة وطنية لمكافحة الفساد والرشوة" قالوا إنها ستعمل على مقاومة الفساد بالتعاون مع جميع الهياكل الفاعلة في المجتمع المدني والأحزاب السياسية وعلى توجيه وتأطير الفاعلين في مجال مكافحة الرشوة والحفاظ على المال العام.
وذكر مؤسسو الجمعية إنهم سيقومون بالضغط على السلطات لفتح كل ملفات الرشوة والفساد دون استثناء، ونفض الغبار عن الملفات التي قد لا يتم النظر فيها من قبل لجنة عبد الفتاح عمر، ودعم البحوث الاقتصادية والقانونية والاجتماعية لتطوير وسائل وآليات مكافحة الفساد وتقديم المساعدة للضحايا وشهود الفساد عن طريق مساعدتهم وإرشادهم.
وقد دفع عدم التوصل إلى توافق بشأن تحديد الطرف المسؤول عن مقاومة الفساد في تونس بسيون أسيدون، العضو المؤسس لمنظمة الشفافية الدولية، إلى القول خلال ندوة صحفية في ختام زيارة مدتها أربعة أيام إلى تونس، بأن "جهود مقاومة الفساد في تونس تمر حالياً بأزمة".
سيون أضاف أن مكافحة الفساد يمكن أن تكون من مهام صحافة الاستقصاء أو القضاء أو توكل إلى لجنة أو هيئة رسمية على أن يتم تحديد المهام بصفة أدق وأشمل في وقت لاحق، مشددا على ضرورة التوصل إلى حل في أقرب الآجال لهذه المسألة من أجل التقدم بجهود مقاومة الفساد في تونس.
"كنس السلالم يبدأ من الأعلى"
وقال مسؤول رفيع المستوى بوزارة العدل التونسية لدويتشه فيله إن "آفة الفساد نخرت كل القطاعات والمؤسسات والمعاملات في تونس" خلال فترة حكم بن علي، معتبرا أن "إرساء قواعد الشفافية والنزاهة والحكم الرشيد والمحاسبة سيكون أمرا شاقا وسيحتاج إلى سنوات، لأن غالبية مكونات المجتمع تعايشت مع الفساد بل تورّطت فيه بدرجات متفاوتة".
وأضاف المسؤول الذي طلب عدم نشر اسمه قائلا: "كنس السلالم يبدأ من الأعلى، أي أن مكافحة الفساد يجب أن تنطلق أولا بمحاسبة الرؤوس الكبيرة التي تمتعت بحصانة في عهد الرئيس المخلوع ثم يقع المرور إثر ذلك نحو من هم أقل درجة وهكذا".
وتابع:"نحتاج إلى نشر ثقافة مضادة للفساد وإلى تطبيق القانون بشكل رادع على كل المخالفين دون استثناء، وقبل ذلك كله علينا تطوير الاقتصاد لتوفير وظائف للعاطلين من العمل وتحسين معيشة الناس حتى لا يقعوا في شرك الفساد والفاسدين".
رئيس جمعية القضاة التونسيين أحمد الرحموني أقر خلال الجلسة العامة الاستثنائية للجمعية بأن مكافحة الفساد في تونس يجب أن تبدأ بمكافحة الفساد المستشري في صلب جهاز العدالة التونسي نفسه، في إشارة إلى وزارة العدل والقضاء والمحاماة.
منير السويسي/ تونس
مراجعة: عبد الرحمن عثمان